المفعول الرجعي في قانون السرية المصرفية: انهيار الثقة وانتحار دستوري

المفعول الرجعي في قانون السرية المصرفية ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو ناقوس خطر يُهدد أساسات النظام الدستوري، ويضرب ما تبقى من مصداقية الدولة اللبنانية في الداخل والخارج. الإصلاح الحقيقي لا يكون بالقفز فوق القانون، بل بإعادة بناء الثقة عبر إجراءات مدروسة، شفافة، تحترم الدستور وتؤسس لنظام اقتصادي عادل ومستقر
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في ظل الأزمات المتراكمة التي يمر بها لبنان، من انهيار اقتصادي إلى شلل مؤسسي، يعود الجدل مجدداً حول قانون السرية المصرفية، لكن هذه المرة من زاوية شديدة الحساسية: المفعول الرجعي. هذا التوجه القانوني الذي يسعى إلى تطبيق القانون بأثر رجعي على وقائع سابقة يشكّل خطراً قانونياً واقتصادياً كبيراً، ويفتح أبواباً جديدة لانعدام الثقة والتهديدات للاستثمار والقطاع الخاص.
فما هي الإشكاليات الدستورية والقانونية التي يثيرها تطبيق قانون السرية المصرفية بمفعول رجعي في لبنان؟
تطبيق أي قانون بمفعول رجعي يتناقض مع مبدأ دستوري أساسي، وهو مبدأ عدم رجعية القوانين. فالدستور اللبناني، كما معظم الدساتير في الأنظمة الديمقراطية، يؤكد على أن القانون لا يُطبّق إلا من تاريخ صدوره، ولا يمكن أن يؤثر على أوضاع قانونية تمت في الماضي.
وبالتالي، فإنّ محاولة تطبيق قانون السرية المصرفية بأثر رجعي تُعد خرقاً للشرعية الدستورية، وتطرح تساؤلات حول مدى احترام السلطة لمبدأ فصل السلطات وسيادة القانون.
كما أنّ اعتماد المفعول الرجعي في قوانين حساسة كقانون السرية المصرفية لا يُهدد فقط المبادئ الدستورية، بل ينعكس بشكل مباشر على مناخ الأعمال والاستثمار. فكيف يمكن لمستثمر أو مؤسسة مالية أن تثق بنظام قانوني يمكن أن يُغيّر القواعد بعد إبرام الاتفاقات أو بعد حصول الوقائع؟
إلى ذلك تقول مصادر اقتصادية مطلعة لـ “هنا لبنان”: “في خضم الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بلبنان، عاد قانون السرية المصرفية إلى الواجهة، ليس من باب الإصلاح، بل من خلال مادة خلافية تتعلق بـ”المفعول الرجعي”. وفي تعليق على هذا القانون ترى المصادر أنّ تضمين هذا القانون مفعولاً رجعياً لأغراض الرقابة العادية يثير تساؤلات جدية حول احترام المبادئ الدستورية، ويهدد الاستقرار التشريعي في بلد أنهكته التجاوزات القانونية والمؤسساتية.
وتوضح المصادر أنه على الرغم من أنّ السرية المصرفية لم تعد، في السنوات الأخيرة، عامل جذب رئيسي للودائع إلا أنّ معالجة هذه المسألة لا تبرر كسر مبدأ قانوني أساسي، وهو مبدأ عدم رجعية القوانين”.
وتتابع المصادر: “المشكلة لم تعد في السرية بحد ذاتها، بل في طريقة التعامل مع القوانين، حيث إنّ التوسع في تطبيق المفعول الرجعي خارج الإطار الدستوري يشكل خطراً على استقرار التشريع، الذي يُعد أحد ركائز الدولة القانونية.”
وتشير المصادر إلى أنّ “القانون رقم 306 الذي نص على مفعول رجعي، أتى في سياق استثنائي ومحدد، هدفه إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومحاربة الفساد وتبييض الأموال، وهي أهداف تبرّر منطقياً هذا النوع من الاستثناءات. أما القانون الحالي، فقد تم إقراره للسماح برفع السرية المصرفية لأغراض رقابية روتينية، لا ترتقي إلى مستوى يسمح بخرق مبدأ دستوري بهذا الحجم”.
وفي ما يتعلق بالحديث عن تأثير القانون على الاستثمارات، ترى المصادر أنّ “القول بأنه سيؤدي إلى هروب الأموال قد يكون فيه بعض المبالغة، خصوصاً وأنّ البيئة الاستثمارية في لبنان غير مشجعة أساساً. لكن الخطر الحقيقي يكمن في ضرب الاستقرار التشريعي، لأنّ أي دولة تُغيّر قواعد اللعبة بأثر رجعي تفقد مصداقيتها القانونية وتدخل في نفق من الغموض واللايقين.”
ويختم المصدر حديثه بالقول: “في بلد يعاني من أزمات متلاحقة، لا يمكن بناء إصلاح فعلي على أرضية قانونية هشة. ولا يمكن إقناع المواطنين أو المجتمع الدولي بجدية أي مشروع إصلاحي حين تُنتهك المبادئ الدستورية بشكل انتقائي”.
إذاّ المفعول الرجعي في قانون السرية المصرفية ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو ناقوس خطر يُهدد أساسات النظام الدستوري، ويضرب ما تبقى من مصداقية الدولة اللبنانية في الداخل والخارج. فالإصلاح الحقيقي لا يكون بالقفز فوق القانون، بل بإعادة بناء الثقة عبر إجراءات مدروسة، شفافة، تحترم الدستور وتؤسس لنظام اقتصادي عادل ومستقر.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() من “فيسبوك” إلى فخّ الابتزاز: جيهان تروي جحيم الخوْف والسكوت! | ![]() ذكريات النار والرماد: شهادات حيّة من قلب الحرب الأهلية | ![]() التحوّل نحو الاقتصاد الرّقمي في لبنان: فرصة للنموّ رغم التحدّيات |