يوميات مواطن في بلد منكوب.. شكراً للدولة أنّ الهواء لا يباع في السوق السوداء!
كتبت نسرين مرعب لـ “هنا لبنان”:
إنّها الثامنة صباحاً. كالعادة لا كهرباء، ولا مولد. فكرّت أن أتصل بصاحب الاشتراك وأعاتبه، وأشكو له سوء الحال، ولكن ترددت في اللحظة الأخيرة، فهو منذ أيام أكرمني بساعة من الضوء حينما هاتفته وأخبرته أنّ كل الأجهزة انطفأت وعملي تعطّل. وطبعاً لا بد من أن أحفظ ودّ هذه الساعة، وأن أتحلّى بالصبر والبصيرة. وألاّ أفكر في المبلغ الذي أدفعه له شهرياً مقابل ساعات قليلة، فهذا حقّ له، ألم يخبرني هو نفسه قبل أيام كيف تعرّض لإطلاق نار أثناء محاولته شراء المازوت كي يضيء لي ولغيري؟؟ “الله ما أكرمه هذا الشخص” هو يضحّي بحياته من أجلي..
عند الساعة الحادية عشرة، وبعدما تعايشت مع انقطاع الكهرباء، بدأت رحلة البحث عن البنزين. وكالعادة، كلّ المحطات في المنطقة أبوابها مقفلة، إن لعدم توفّر المحروقات أو لتعرضها لاعتداءات. فعلى من أغضب؟ على صاحب المحطة الذي عبّء جيوبه لسنوات من “المدعوم”، وها هو اليوم يخزّن ما تبقّى فيما أنتظر أنا الفرج في طابور من الذلّ والمهانة؟ أم على الثائر المغوار الذي ما إن أنهى سيجارته حتى قرر الاعتداء على المحطة.. ولم يترك لنا أيّ خيار إلاّ البحث عن “ابن حلال” يبيعنا غالوناً مغشوشاً من البنزين في السوق السوادء بأضعاف أضعاف السعر. ولكن حتى هنا لا يحق لي أن أتذمّر، فصاحب المحطة آدمي والثائر “صاحب السيجارة” آدمي، ومن باعني الغالون أيضاً آدمي، ولكن غريب محرّك السيارة ما به أصبح صوته غريباً!
وأنا أفكر في نوع البنزين الذي أصبح في خزان السيارة والصوت الغريب، يرّن الهاتف، لا غاز في المنزل. وهنا رحلة جديدة. ولم يعد لدي طاقة، فقررت الاستعانة بالـ”فيسبوك”، وسألت أين أجد الغاز؟ ولكن اللبناني مهضوم: فهناك من قال بالمصفاة؟ وآخر بالبلوك رقم 9.. ضحكت بملل. واستجمعت قوايَ وبدأت البحث دون فائدة كالعادة، فكان المجد للسوق السوادء.
إنّها الساعة الخامسة، لا كهرباء، غالون البنزين أوشك على النفاذ والسيارة ستنطفئ قريباً، أما الغاز فهو في الصندوق الخلفي. بقي الدواء. نزلت إلى إحدى الصيدليات وما إن فتحت الباب حتى بادرني صاحبها بكلمة “مقطوع”، فيما الرفوف خلفه ممتلئة. سألته: “شو هو المقطوع، ما عرفت شو بدي”، فجاء الرد الحاسم “كل شي مقطوع”.
سئمت الحال، وتذكرت الدواء الذي يتم شراؤه من تركيا، أجريت اتصالاتي، وكانت المفاجأة أنّ علبة الدواء التي كنت قد اشتريتها في لبنان بعد رفع الدعم بـ58 ألف ليرة، يبيعها التاجر الذي يأتي بها من تركيا بـ35$، أي ما يتخطّى الـ700 ألف.
ولكن حتى هنا لا يحقّ لي الاعتراض، فالدولار دولار. والتاجر “كتر خيره”، يسعى لتأمين المقطوع ويحق له بهامش من الربح، وبين البائع والشاري “يفتح الله”.
أعود للمنزل، وأبدأ عملي، والصلوات ترافقني كي تصمد بطاريتي الهاتف واللاب توب لساعات قليلة، فأنهي ما تراكم من الواجبات. فإن استطعت ذلك أشعر بالنصر. نعم، نحن في لبنان دائماً ما نحصد الانتصارات، إن مرّت ساعاتنا ونحن ما زلنا على قيد الحياة ننتصر، إن مرّ اليوم وقد تأمّن لنا البنزين والمازوت والغاز والدواء، ننتصر. إن استطعنا إنهاء العمل ننتصر، وفي عزّ كلّ هذه الانتصارات العظيمة نتنفس ونشكر الدولة الكريمة أنّ الهواء ما زال متوفراً لنا ولم يصل إلى السوق السوداء.
وهكذا ينتهي يوماً جديداً من الأزمات، على أن نستفيق غداً على أزمات أخرى..
مواضيع مماثلة للكاتب:
أين لبنان؟.. يا فيروز! | سليم عياش.. “القاتل يُقتل ولو بعد حين”! | نعيم قاسم “يعلّم” على الجيش.. الأمين العام “بالتزكية” ليس أميناً! |