عن التحالف السافر بين القضاء والإعلام
ترجمة “هنا لبنان”
كتب يوسف معوض لـ ” Ici beyrouth“:
ها نحن نشهد مجدداً على استعراض جديد تسلط فيه الأضواء على العدالة!
يخيل لنا أننا نشهد حلقة جديدة من حلقات مسلسل شيق على منصة Netflix بعنوان القضاء اللبناني، مع قيام المحامي العام التمييزي القاضي عماد قبلان باستدعاء مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون لجلسة إستجواب بناء على دعوى أقامها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ضدها. ولكن هذه الحلقة لن تكون الأخيرة من هذا المسلسل وإلا فكيف يمكن أسر المتابعين من دون المزيد من التشويق، مثلاً من خلال تأجيل جلسة الاستماع؟ وفي النهاية، ألا يجب على عشاق المسلسلات التحلي بالصبر؟
حكومات القضاة والشعبوية القضائية
المشهد القضائي الذي نشهده منذ فترة يعكس صورة البلد والانحدار في مستوى المرافق العامة، بدءًا من ساحة النجمة!
فبعدما أصابنا أولئك الذين أوصلتهم الإرادة الشعبية ليجتمعوا تحت قبة البرلمان، بخيبة أمل كبيرة، أوشكنا على تسليم مصيرنا للقضاة معتقدين أن “الخلاص سيأتي من القضاة وليس من النواب المنتخبين”. كدنا أن نمنح القضاة سلطة إصدار القوانين بدلاً من النواب، وبالتالي، كانت امتيازاتهم لتتجاوز مجرد ممارسة الوظيفة القضائية. كدنا أن نمنحهم بكل حسن نية، سلطة تعسفية.
كنا قادرين حينها على أن نصدّق أن هؤلاء المدرّبين على الحياد في معهد الدروس القضائية، قادرون على أن يكونوا أكثر كفاءة من أولئك المنتمين إلى الطبقة السياسية. كيف استطعنا خداع أنفسنا وكم هي كبيرة خيبة أملنا!
فلنتوقف عند الأخبار التالية والتي يصفها أحد الحقوقيين، بالمخيفة لدرجة أنها تذكرنا بعدالة “روي بين” في الغرب الأقصى الأميركي. وكأنها بالصدفة، تستهدف غادة عون، التي يبدو كأنها تسعى لتجسيد الانتقام الشعبي والظهور بصورة إلهة القدر بالنسبة للمودعين:
– “المدعية العامة غادة عون ترفض تسلّم قرار الردّ على الرغم من المحاولات العديدة”.
– “الإجراء التعسفي الذي اتخذته القاضية عون ضد المصارف”.
– “في مذكرة أرسلها إلى المولوي، استنكر نجيب ميقاتي إلى أبعد الحدود سلوكاً أرعن وغير مألوف في عالم القانون.
– “رئيس الوزراء نجيب ميقاتي أوعز بكتاب لوزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي يطلب فيه إجراء المقتضى القانوني والتوقف عن تطبيق تعليمات غادة عون”.
-“الأوساط القضائية استنكرت المذكرة التي وجهها ميقاتي بكف يد القاضية عون عن الملف ضد المصارف”.
– “مجلس القضاء الأعلى يصدر الخميس بياناً يطالب فيه ميقاتي والمولوي بإعادة النظر في قراريهما”.
وغيرها من الأمثلة التي تطول حول المشاركين في هذه المهزلة، خصوصاً وأن عون ليست المسؤولة الوحيدة عن هذه المعمعة!
ولكن أين نحن الآن؟ بالنسبة لعشاق الاستعراض، تمثل مثل هذه التبادلات تصفية حسابات كما في فيلم OK Corral، أكثر بكثير من كونها تعكس هدوء قاعات المحاكم.
كفانا خيالا.. لا بعد من العودة سريعًا إلى المبدأ المقدس لفصل السلطات، وبالتالي إعادة تركيز أنشطة القضاة على السلطة القضائية، و”لا شيء سوى السلطة القضائية”.
العلاقة الخطيرة بين القضاء والإعلام
مع احتكاك الإعلام بالقضاء، يتجلّى الخطر المحدق بالعدالة على مستويين: أولاً، تميل الصحافة التي تحقق سبقاً صحفياً وتضع يدها على ملف ما، لأن تضع نفسها مكان القاضي والبت في القضية.
ثانياً، يمكن للقاضي الذي يجد نفسه في دائرة الإعلام، أن يعتقد أنه مكلف بمهمة تحمل الخلاص: فيعتبر أن أولوية القضاء تحرره من احترام القوانين.
وقد تكلف النجومية والسحر الهوليودي ثمناً باهظاً بالنسبة للممارسة الكريمة والسيادية للعدالة. نعم، “الشعبوية القضائية” مخيفة ولا بد من التنديد بـ”المحاكم الإعلامية التي تعرض للخطر افتراض البراءة والحق في المحاكمة العادلة”.
في النهاية، قد نفلح بإقامة العدل تحت شجرة بلوط، لكن ذلك ليس بوارد في دائرة الضوء ولا حتى على الشبكات الاجتماعية.
الأوهام والترويج الشخصي
منذ أن أصبحت وسائل الإعلام السلطة الرابعة، كان يجب تحصين القضاة ضد إغراء النجومية، وأن يُطلب من جميع الموظفين في القطاع العام التحلي بضبط النفس خلال التعبير الكتابي والشفهي عن آرائهم الشخصية. كما “لا يجوز تحت أي ظرف، تحويل الاتصالات المؤسسية لأغراض الترويج الشخصي”.
شانتال أرنس، الرئيسة الأولى لمحكمة النقض الفرنسية، كانت قد قالت في مقابلة: “لا توجد حكومة قضاة”. وكانت القاضية التي تبوأت المنصب الأعلى في القضاء في فرنسا، قد شدّدت عشية تقاعدها على ذلك بالعبارات التالية: “سأمتنع عن التعليق” و “ليس لدي أي تعليق”. نصيحة جيدة لمتدربينا المشعوذين!
عندما يكون المرء قاضيًا، لا يقدم استعراضا. وعندما تمارس واجبات بهذه القدسية، لا بد من الالتزام بموجب التحفظ.. فإما ضبط النفس وإما الإستقالة!
مواضيع ذات صلة :
عقيص للقضاء: إيّاك أن ترتكب جرمًا | “ساعة موت”.. من أراد لبيروت أن تتفجّر عند السادسة وسبع دقائق؟ | معوض: التضحيات كبيرة “بس مصرّين نكمّل” |