المصارف الجديدة.. بين الخيال والمنطق
كتب نيكولا صبيح لـ”Ici Beyrouth“:
بين الحين والآخر يتردد الحديث عن إنشاء مصارف جديدة، مع الإشارة إلى أن خطة حسان دياب نصت في العام 2020 على إنشاء خمس مؤسسات مالية جديدة. في ذلك الوقت، قدّم هذا الإقتراح بناء على طلب حزب الله. أوليس ذلك مؤشراً كافياً لسوء نوايا “فاغنر” المحلية؟ كان الحزب يعتقد أن الفكرة ستطبق دون أي عوائق، نظراً لأن هذه المصارف الخمسة ستوزع بين التشكيلات السياسية والمجتمعية الرئيسية في البلاد، مع امتياز واضح يغطي ما يفتقر إليه الحزب وحلفاؤه.
ولكن سرعان ما تبددت الفكرة وتلاشى صداها. ومع ذلك، يبدو أنها لا تزال تدغدغ بعض الأذهان، وهذا ما يفسر عودتها للظهور بشكل مقنّع من وقت لآخر، من خلال المسؤولين أو الاقتصاديين أو في اللجنة المالية في البرلمان أو حتى من مصادر أخرى.. علماً بأن هذه الفكرة قد تشتمل على الكثير من المخاطر. كيف؟ فلنستطلع ذلك في السطور الآتية.
أولاً، في ما يتعلق بالصلاحيات، تنص التشريعات على أن المصرف المركزي هو الوحيد المخول منح التراخيص المصرفية. وبالتالي، ليس للحكومة ولا للبرلمان أي حق بالتدخل، مع الإشارة إلى أن أي تدخل سيكون ضاراً على أي حال.
ثانياً، تضع المصارف الجديدة كل المصارف الأخرى الموجودة بالفعل أمام مأزق وجودي، وذلك أن أي مؤسسة جديدة عادة ما تقبل بالودائع “الفريش” حصراً. ونظرًا لأن المصرف الجديد لا يمتلك أي تاريخ أو التزامات ولا يعاني من مشكلة ثقة ويتمتع بميزانية نظيفة، سترتفع حظوظه وسيصادر مكان جميع المصارف الأخرى معرضا إياها لخطر الزوال، ومعها جميع الودائع. وتضع التقديرات في المحور 200 ألف حساب تقريباً يبلغ مجموعها حوالي ملياري دولار. وهذا يعني المخاطرة بانتقال الكثير من المال، أي المصادر النادرة للدخل، إلى المصارف الجديدة.
ثالثاً، بعد مرور نحو أربع سنوات من الأزمة، ما الذي يضمن للمودعين المحتملين أن المصرف الجديد لن ينجر أيضًا إلى دهاليز الدولة العاجزة التي لم توفر شيئاً لإضعاف القطاع المصرفي؟ وفي كل الأحوال، بغض النظر عما نفعله، لا نستطيع العيش بدون مصرف. كما ليس بالإمكان الاعتماد على مصرف في الخارج إلا جزئياً. ففي البداية، ليس لكل شخص القدرة على الوصول لمصرف أجنبي. ومن ثم، من الصعب إجراء عمليات فعالة بشكل دائم عبر مصرف في الخارج.
رابعاً، تتمثل إحدى الأفكار المطروحة في الوقت نفسه في خطط الاسترداد المختلفة، في تصفية المصارف المتعثرة و / أو دمجها مع المصارف الأخرى القائمة بالفعل. هذه الفكرة غير عملية. والحق يقال، أي مصرف سيجد مصلحة في إضافة متاعب مصرف متعثر إلى معاناته الخاصة؟
خامساً، من أجل الخروج من هذه المتاهة، يمكن دراسة اقتراح آخر: منح التراخيص لمصرف أجنبي أو أكثر، أو للمستثمرين المصرفيين المعترف بهم والموثوق بهم تمامًا. ولكن في حال اللجوء لهذا الاحتمال، لا بد من ألا ينشئ الفاعلون مصارف من الصفر، وإنما الأجدى قيامهم بشراء المؤسسات القائمة ودمجها في مؤسسة جديدة وضخ رأس مال جديد وبالتالي استئناف العمليات المصرفية العادية. ستسمح هذه الطريقة بإنقاذ هذه المصارف ومعها الودائع القديمة في حوزتها.
سادساً، أي مؤسسة ستجرؤ على اتخاذ مثل هذه المبادرة، وما هي مصلحتها؟ ألن يكون من الأفضل الانتقال والازدهار في بلد “طبيعي”؟ في الحقيقة، الفكرة أعلاه جريئة ومتهورة إلى أقصى حد. لكن فلنفكر بالأمر على المدى الطويل. البلدان الأخرى مشبعة بالفعل بالخدمات المصرفية. ومن خلال التوجه إلى هناك، سيتعين على المستثمرين بذل الكثير من الجهود للتنافس مع مؤسسات موجودة بالفعل وتتمتع بثقة عملائها المخلصين وبمعرفة مثبتة بالسوق. أما في لبنان، السوق مفتوح على مصراعيه والعملاء لا ينتظرون سوى مؤسسة جديدة بدون التزامات، وهذا يكفل عملياً المستقبل المشرق.
سابعاً يطرح سؤال آخر: ما الذي قد يدفع بالمصرفيين الحاليين لبيع مؤسساتهم للقادمين الجدد بعدما أسسوا أعمالهم بشق الأنفس وأحيانًا منذ أجيال؟ كيف يقبلون بالبيع خصوصاً إذا كانت هذه المؤسسات لا تزال قادرة على إيجاد حل لمشكلتها وتقتصر أزمتها على مشكلة السيولة. سيجد البعض صعوبة في التخلي عنها. لكن ربما سيستسلم آخرون أمام الوضع المنفصم والخسائر المتراكمة والأفق المسدود على الدوام. وبالتالي، يفضلون الحد من الضرر والخروج من السوق للاستثمار في مكان آخر.
ثامناً، في كل الأحوال، إذا تقرر إنشاء مصارف جديدة لا بد من سن تشريع لحمايتها كشرط أساسي، هي والمصارف الأخرى التي ترفض الالتزام بأي صيغة للاستحواذ و/أو الدمج. كل ذلك بهدف الحفاظ على أموال المودعين، أي الودائع القديمة والجديدة.. لأن التجربة علمتنا أن السلطة قد تبدع في إثارة الأزمات الجديدة كل يوم! ويجب أن يتضمن هذا التشريع قانون مراقبة رأس المال. ليس ذلك فحسب بل لا بد من أن تراعي القوانين وضع خطة حل مصرفي للمؤسسات الحالية وإعادة إطلاق النشاط الائتماني، بالإضافة إلى تدابير أخرى ضرورية أيضًا، لأن جل ما يتطلبه الأمر ليس الخيال في السلطة، بل ترهات أقل ومنطق أكثر!