الموسيقى الفنية في لبنان وتصورها الحالي (1/4)
ترجمة “هنا لبنان”
كتب Alain E. Andrea لـ “Ici Beyrouth“:
مع الأسف، لقد حلّت السطحية مكان العمق والتماسك والجماليات في الموسيقى الفنية في لبنان، خصوصاً في ظل هذه الحقبة المليئة بالاضطرابات والفوضى.
الموسيقى مرآة صادقة للروح المجتمعية الجماعية. لطالما كان ذلك الحال وذلك ما قاله أفلاطون قبل أكثر من ألفي عام، حين ربط في كتابه الرمزي “الجمهورية” رغبة أي كان بالسيطرة على الجماهير بالسيطرة على موسيقاهم. لا يزال صدى حكمة الأسلاف هذه يتردد حتى اليوم، مع الموسيقيين والملحنين وعلماء الموسيقى وأولئك الباحثين عن السمو والأوصياء المخلصين للتراث الموسيقي الذي لا يقدّر بثمن. ومع ذلك، في ظل الضجة الحداثية الفوضوية، نشهد تراجعًا أكثر فأكثر في الموسيقى الفنية، سواء كانت غربية أو شرقية أو حتى موسيقى الكريول. ويبدو أن الانجذاب للإثارة والتفاهة طغى في الواقع بأشواط على البحث عن العمق والجماليات.
سنحاول في هذا المقال استكشاف الأبعاد المختلفة للموسيقى الفنية في لبنان والتمحص في تطورها على مر القرون، في محاولة لتفكيك الأسباب وراء انحدارها.
يبقى هذا التشخيص حاسماً، لا بل حتمياً كي نتمكن من تقديم حلول فعالة لإضافة بصيص من الأمل للتشخيص الكئيب لهذا الفن في لبنان. وسنتناول باقتضاب في هذا القسم الأول من المقال، المعايير والتعريفات النمطية للممارسات الموسيقية، بغية تعريف هذا المفهوم المعقد للموسيقى الفنية، على مستوى معاييرها الجمالية النحوية والموسيقية وبعدها الثقافي، كمقدمة لمقاربة الموسيقى الحية وإدراك ماهية الموسيقى الفنية في لبنان. ويكتمل هذا المنظور المتزامن، في القسم الثاني من هذا المقال، من خلال مقاربة تاريخية للموسيقى الفنية في لبنان والتي تتمحور حول المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى، وذلك من أجل تحليل الواقع الحالي في ضوء المعايير النموذجية والتاريخ ومعيار الجودة الذي يصبح أكثر أهمية في هذه الفترة من الانهيار المجتمعي.
المنظور الابتستمولوجي
قبل الغوص في صلب الموضوع لا بد من وضع تعريف أولي لمفهوم الموسيقى. بالنسبة لأفلاطون (427-347 قبل الميلاد)، الموسيقى مجموعة من الفنون المستوحاة من آلهة الإلهام. وبالنسبة لغييوم دي ماشوت (1300-1377)، هي “علم”؛ وهي بالنسبة ليوهان سيباستيان باخ (1685-1750)، “انسجام لطيف يحتفل بالله وبملذات الروح المسموح بها”؛ بالنسبة لجان جاك روسو (1712-1778)، هي “فن ترتيب الأصوات بطريقة ترضي الأذن”؛ بالنسبة لفلاديمير يانكليفيتش (1903-1985)، هي “جماليات ما لا يمكن وصفه”. ومن الواضح أن تعريف الموسيقى يختلف باختلاف المنظور الابستمولوجي. ومن أجل صياغة معايير تقييم الممارسات الموسيقية، سنتبنى تباعاً وجهة نظر موسيقية تغذيها السيميائية واللسانيات، ثم وجهة نظر جمالية. واعتمد نهج الموسيقى بصفتها لغة من قبل علماء الموسيقى المهتمين بالسيميائية واللسانيات، مثل نيكولا ميس وجان بيير بارتولي ونداء أبو مراد، بالإضافة إلى الباحثين في علم النفس المعرفي الموسيقى، مثل جون سلوبودا.
ثلاثية موسيقية
تنقل نداء أبو مراد في سياق هذه اليقظة الموسيقية السيميائية والعصبية المزدوجة، التقسيم اللغوي لفرديناند دو سوسور إلى المجال الموسيقي. وبالتالي تعتبر هذه لغة عالمية، حيث يتم تعريف مفهوم اللغة كمهارة مشتركة بين جميع الكائنات الحية، مما يسمح لها بالتعبير عن المحتوى والتواصل مع بعضها البعض من خلال أنظمة إشارات تستند للأصوات المنظمة. وتحدد هذه الأنظمة اللحنية المتمايزة مع اللغات الموسيقية التي تستحيل بدورها لهجات موسيقية. بالنسبة لهذا المؤلف، بينما يتم التمايز بين اللغات على أساس نظام تنظيم النغمات اللحنية، يعتمد التمايز بين لهجات اللغة الواحدة من جهة، على خصوصيات إيقاعية مرتبطة بهذه العلامة الثقافية التي يجسدها كل من الوزن وإيقاع اللغات الغنائية ومقياس الإيماءات الطقسية أو الكوريغرافية في الإيقاع ومن ناحية أخرى، على الديناميكيات الجمالية المتأصلة في مفاهيم التقليد والحداثة.
ثلاثة أنظمة لحنية
يقود كل ذلك لتحديد اللغات الموسيقية (أو العائلات اللغوية الموسيقية) مع الأنظمة اللحنية الرئيسية الثلاثة التي تشترك في موسيقى الكوكب: اللغة النمطية الأحادية (الممتدة من جنوب آسيا إلى أوروبا في العصور الوسطى، مروراً بآسيا الوسطى، غرب آسيا وشمال أفريقيا)، واللغة الأحادية الخماسية (خصوصًا بشرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكذلك أمريكا ما قبل الاستعمار وأوقيانوسيا) واللغة متعددة الأصوات النغمية (خصوصًا بأوروبا وأمريكا منذ القرن السابع عشر ثم أصبحت لغة الجزء الأكبر من الموسيقى العالمية، نتيجة الاستعمار، ثم العولمة). هذه اللغات الثلاث مرفوضة في التقاليد الموسيقية والمدارس الموسيقية التاريخية المتعاقبة. ويتم تحديد التقاليد الموسيقية ضمن اللغة اللحنية نفسها أولاً على أساس ثقافي إيقاعي، مرتبط بالخصائص المتريّة للكلمة المغناة والإيماءات الطقسية والرقصية، ومن ثم، وداخل نفس المنطقة الثقافية، على أساس التصنيف المزدوج والتقليد الموسيقي الديني الجدلي مقابل التقليد الموسيقي الدنيوي، والتعارض بين التقليد الموسيقي الفني مقابل التقليد الموسيقي الشعبي.
النماذج الجمالية
الجدل بين التقليد الفني والتقليد الشعبي هو جمالي ويتجاوز قبل كل شيء المستوى اللغوي والنحوي للمقاربة السابقة. وعلى خطا جان ديورنغ، يربط نداء أبو مراد هذه الجدلية بثنائية الموروث/الابتكار. فبينما يكتفي التقليد الشعبي أو التكراري بنموذج التكرار الحرفي للنماذج الموروثة بشكل متطابق، يختار التقليد الفني (أو التقليد العالي) نموذج التجديد من خلال تحقيق تأويل النماذج والقواعد الموروثة التي تسمح بإعادة ملائمة هذه النماذج والقواعد من أجل خلق شيء جديد على أساس الموروث. يضاف إلى هذين النموذجين الفنيين الإبداعيين التقليديين مقابل النموذجين الحرفيين التكراريين، نموذج ثالث يكسر الأطر المرجعية التقليدية لتبني مبدأ المحايثة. هذا هو النموذج الحداثي للابتكار الذي يحدث في قطيعة مع النماذج التقليدية الموروثة.
تنتج هذه الحداثة الموسيقية، حسب التاريخ الموسيقي الأوروبي، نوعاً آخر من الموسيقى الفنية.. نوع يتطور بشكل ثابت ويشكل جزءاً من هذه اللغة اللحنية النغمية متعددة الألحان، المستمدة من اللغة الشكلية الأحادية، مع أنها تختلف عنها جذرياً نتيجة للنموذج الحداثي. وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أن مفهوم الموسيقى العلمية يعرف بمفهوم الموسيقى الفنية التي تشرح نظريتها شفهيًا أو كتابيًا، وفقًا لعلماء الموسيقى وعلماء الموسيقى العرقية الناطقين بالفرنسية، مثل جان ديورنغ وبرنارد لورتات جاكوب. وبالنظر إلى أن التقليد الموسيقي الفني النموذجي الأحادي في بلاد الشام مزود بنظرية مكتوبة لقواعده الموسيقية، قبل الموسيقى الفنية الأوروبية بوقت طويل، ينطبق وضع الموسيقى الفنية على الموسيقى الفنية النمطية الأحادية تمامًا كما ينطبق على الموسيقى الفنية النغمية متعددة الألحان.
التبسيط والتهجين في الموسيقى
وفي الختام، من الضروري تحديد مفهوم التبسيط في الموسيقى. ومع ذلك، لكل من اللغات اللحنية الموصوفة أعلاه قواعدها الخاصة وبالتالي يتم تحديد الكريلة الموسيقية بعملية تهجين بين اللهجات الموسيقية. ويمكن لهذا التهجين حسب نيكولا رويير أرتوسو، أن يكون مثمراً إذا كانت القواعد الموسيقية المعنية متوافقة مع بعضها البعض، لا سيما من وجهة نظر المكون اللحني (على سبيل المثال بين الخماسية الأفريقية والتناغم النغمي الأوروبي، فتظهر مثلا موسيقى الجاز وهي موسيقى فنية)، في حين أنها عقيمة في حالة عدم التوافق النحوي، وفي هذه الحالة تكون النتيجة من نوع “Hi! كيفك؟ Ça va!” كما وصفها نداء أبو مراد. هذا هو بالضبط ما يحدث في محاولات فرض القواعد التوافقية على ترتيب الفواصل اللحنية لثلاثة أرباع النغمة والنغمة في الموسيقى التقليدية الأحادية. يؤدي هذا الفرض لاستبدال السلم بمقطوعات موسيقية وتثبيت النطق، بينما هو ارتجال في الأصل (باستثناء العمل الطموح لتوفيق سكر)، مما يؤدي حتماً إلى تراجع موسيقي على المستويين الجمالي والنحوي.
مواضيع ذات صلة :
العلاج بالموسيقى: ممارسة قديمة تواكب الحداثة | لماذا تشعرنا الموسيقى بالسعادة؟ | لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟ |