الشوف.. والحاضر “المقولب” بالماضي
ترجمة “هنا لبنان”
كتب يوسف معوض لـ”Ici Beyrouth“:
في أيلول، أصداء لمصالحات بين الطوائف وزيارات لرموز دينية ملاذات إقطاعية وأسقفية وقداديس شكر وطقوس استرضائية وجمعة مقدسة.. ذاك هو 8 أيلول في منطقة الشوف التاريخية التي تعتبر “مثالاً للتعايش” كما قيل لنا! ولكن هل هذا هو حقاً نموذج النظام السياسي الذي لطالما طمحنا إليه؟
لا شك بأن البطريرك الراعي حظي بترحيب حار وصادق من قبل الطائفة الدرزية وقادتها، لكن كل ذلك ليس سوى صيغة مكررة لحفلات الاستقبال الفخمة التي عرف بنو معروف بإقامتها لشخصيات مسيحية. بدا ذلك كتكرار لصفحات معينة من تاريخ القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو من فترة الانتداب الفرنسي، حين كانت الست نظيرة الزعيمة والوصية على مجتمع الشوف المتعدد والضامنة لسلمه الأهلي.
لبنان كمال جنبلاط والعلّية اللبنانية؟
خطابات الترحيب نسخة مقولبة بخطابات الماضي التي تحتفي بفضائل التسامح والتفاهم، لدرجة أن الأمر أشبه بإعادة بناء تاريخية لأحداث مدفونة في الذاكرة الجماعية. الزمن يعيد نفسه والمواضيع نفسها تتكرر. ولكن مجدداً، هل هذا هو لبنان الحديث النابض بالحياة والمساواة، الذي حلم بتأسيسه أمثال كمال جنبلاط وميشال شيحا وميشال أسمر وسواهم من العقول المجازفة التي تحرك دماء الأحزاب السياسية الثورية والأيديولوجيات الإصلاحية؟
كلا! هذه هي الإجابة. لقد ثبت أن جميع برامج اليسار الوطني المشتركة غير كافية. لم نكن متحضرين للثورة الثقافية. إخفاق كبير! ومن غير اللائق الاعتراف به في هذا السياق العام وفي لقاء شانيه والمختارة وبعقلين وبيت الدين! لكن الحقيقة تبقى ثابتة: لا يزال المشهد السياسي على حاله، وأصحاب المصلحة شنوا حروباً أهلية وارتكبوا الفظائع من أجل لا شيء. أما خطيئتنا الأصلية فتكمن في اعتقادنا بأن مجتمعاتنا قابلة للإصلاح على النموذج الغربي بالنسبة للبعض، أو على النموذج السوفياتي بالنسبة للبعض الآخر.
لم يتغير شيء! ومع ذلك، هل علينا أن نستسلم؟ للأسف سيتعين على الطموحين المحبطين إعادة حساباتهم الصغيرة، حيث أن تمردهم الحماسي كلفنا كثيراً. أما الواقعيون، أولئك الذين تواضعوا إلى حد ما والذين لم يؤمنوا بأن الحرية تسير بالضرورة جنبًا إلى جنب مع الثورة وتتطلب صفحة بيضاء من الماضي.. هؤلاء يمكنهم أن يندبوا الوضع العام للبلد حيث يتقاذفنا جنون البعض والبعض الآخر.
لقد رأينا أيضًا وبوضوح كيف ابتلع النظام مثقفي مقاهي الرصيف من ماركسيين لينينيين وماويين (لأن بعضهم موجود بشكل يبعث على التبسم). أولاً، من خلال رأسمالية الحريري الأب، ثم من خلال قرنة شهوان وأمثلة متعددة بعد ذلك. كم هي كثيرة التحولات التي لم نسجلها وبالمثل، كم من إنتقال من اليسارية الدولية والقومية الشعواء للشعور بالواقع والوطنية الحقيقية! أليس من الرمزي رؤية ذلك التدافع في معراب وسيدة الجبل وفي أماكن أخرى في ملاذات لبنانية أخرى، لأولئك الذين تحدوا في السبعينيات الاستثناء اللبناني واستهدفوا نظام البرجوازية الكومبرادورية؟
باختصار، أصبحت البرامج الكبيرة ومشاريع التجديد والبيانات السياسية المدوية من الماضي. بلدنا فسيفساء من شعوب غير متجانسة إلى حد ما.. قطع مشرذمة من أقليات تغار كل منها على هوياتها الخاصة ولا تجد درع الحماية والاستمرارية إلا في طائفتها السياسية التي عفا عنها الزمن. لذلك رجاء، لا داع للخطب الكبيرة ولا مركزية راديكالية، لا توحيد أو “سرير بروكرست”! يبدو أننا متمسكون بفولكلورنا، وإن كان دمويًا في بعض الأحيان!
فلنعرّج على بلد فخر الدين..
في هذه اللحظات من تاريخنا، يبدو أن الثنائي الشيعي يعتقد بضرورة الإستيلاء على جبل لبنان ويؤمن بالسلطة التي تنبع من السلاح. في هذه الأوقات المحددة، حيث تعيش الطائفتان الدرزية والمسيحية حالة من الخطر الوشيك، حتى لو لم نتمكن من ملاحظة نفس الدرجة من الاستنفار لدى الطائفتين، لن أربط زيارة البطريرك الراعي هذه بزيارة سلفه نصرالله صفير التي قبل 22 عاما، بل سأربطها بالتحرك العاجل الذي قام به البطريرك يوسف حبيش عام 1841 بعد الأحداث الكارثية التي اندلعت بين دير القمر وبعقلين: حينها، لم يحضر بنفسه بل أوكل شيوخ كسروان لنزع فتيل الأزمة التي كانت تختمر والتي أدت على مدى عقدين من الزمن، لتمزيق النسيج الاجتماعي الدرزي المسيحي، لتصل إلى ذروتها عام 1860، وتتطلب تدخلاً إنسانياً.
لم تتكلل المبادرة في ذلك الوقت بنجاح؛ فقد قضى عليها السياق الاجتماعي والتاريخي منذ البداية. لكن هذه المرة، يبدو أن الاضطرابات تسير على الأرجح في اتجاه مختلف تماماً، ويبدو أن الإجراء الذي قام به غبطة البطريرك الجمعة الماضية يضعه على خطا البطريرك حبيش في رحلة بدأت قبل مئتي عام.
سيتعين على الطائفتين المتجاورتين في قلب جبل لبنان التقارب ووضع الخلافات والاستياء جانباً من أجل التلاقي.. خصوصاً وأنهما شهدتا أهم انعكاسات التحالفات. وصحيح أنه قد قيل “نفيان لا يصنعان أمة”؛ لكن ألا يمكننا القول بالسهولة نفسها إن “الإنثناء الهوياتي” كفيل بتشكيل تحالف ضمني؟
مواضيع ذات صلة :
الراعي: لبنان لم ينتهِ ولن ينتهي بوجود قديسيه | الراعي يعبر عن أسفه لتصاعد الحرب ويؤكد على أهمية القمة الروحية | الراعي ينقُل خوف البابا على الوجود المسيحي في لبنان |