النزاع اللبناني-الفلسطيني: عود على بدء
كتب ميشال توما لـ“Ici Beyrouth”:
الذين عايشوا الأزمة اللبنانية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات والحرب التي نتجت عنها في العام 1975، ينتابهم اليوم شعور بأنّ التاريخ يعيد نفسه من جديد. فهذه المرحلة المظلمة من تاريخ لبنان تحمل الكثير من أوجه التشابه المثيرة للقلق مع الماضي، ولو أن السياق الجيوسياسي لهاتين الحقبتين اللتين يفصلهما نصف قرن مختلف تماماً.
ولتوضيح هذا التشابه المقلق بين الموقفين، يمكن العودة إلى الوراء إلى أجواء أوائل السبعينيات من القرن العشرين. ففي العام 1969، وقّعت الدولة اللبنانية وثيقة رسمية كارثية مع منظمة التحرير الفلسطينية: اتفاق القاهرة، الذي منح حرية الحركة للتنظيمات الفلسطينية المسلحة في جزء من جنوب لبنان، لا سيما في منطقة العرقوب التي عرفت في ما بعد باسم “فتح-لاند” (أي أرض فتح!).
وكان الهدف من هذا الاتفاق السماح للمقاتلين الفلسطينيين – الفدائيين – بتنفيذ هجمات بحرية ضد إسرائيل (عبر إطلاق صواريخ الكاتيوشا باتجاه الأراضي الإسرائيلية). وترجمت النتيجة بغارات انتقامية بشكل منتظم على قرى جنوب لبنان، مع كل ما يترتب على ذلك من زعزعة استقرار البلاد وإطالة أمد الصراع الدائم. وعلى مدى الأشهر الماضية، أفسدت منظمة التحرير الفلسطينية الدولة المركزية تدريجياً، واخترقت وأفسدت جزءاً من الطبقة السياسية، ونهبت (قبل كل شيء) السيادة الوطنية. كان ذلك قبل 50 عاماً تقريباً… والتشابه مع الوضع الحالي صارخ للغاية.
ورداً على الأمر الواقع الذي فرضه الوضع الفلسطيني، طلب رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية من الجيش عام 1973 وضع حد لتجاوزات منظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، وجد نفسه مضطراً للتراجع تحت ضغط الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي كانت تربطه به في السابق علاقات شخصية وثيقة. وكان على الرئيس فرنجية إبلاغ الأحزاب السيادية (التي يفترض أنها مسيحية) بفشل محاولاته، التي قادت بعد ذلك حملة حثيثة وحملت السلاح لمجابهة الاعتداءات المستمرة على السيادة. وتطورت هذه المواجهة بعد ذلك لتؤدي لاندلاع الحرب اللبنانية في نيسان 1975. ولا يخفى على أحد ما حدث بعد ذلك…
ولعل النقطة الأكثر تأثيراً في هذا الوضع الذي يعيد فيه “التاريخ نفسه” هي أن أولئك الذين عارضوا، سياسياً وبالقوة، سلب السيادة تعرضوا للوصم والشيطنة من قبل جزء من الطبقة السياسية، وتحديداً من قبل التيارات اليسارية. ومارس هؤلاء تحت حجة دعم “القضية الفلسطينية النبيلة”، لعبة قوى إقليمية لا تهدف للدفاع عن الفلسطينيين فحسب، بل لإغراق لبنان في صراعات لا تنتهي لاستغلال المشهد اللبناني في مناوراتها الإقليمية.
وكان أنصار هذه التيارات اليسارية يتبجحون بالشعارات الشعبوية، ويبرهنون عن عدم قدرتهم على التمييز بين الدعم المبدئي للقضية الفلسطينية من جهة، وضرورة مواجهة عملية زعزعة الاستقرار والإعتداءات على سيادة البلاد من قبل بعض القوى الإقليمية الساعية للهيمنة. وينطبق هذا النمط السياسي نفسه على الوضع الحالي، وتحديداً بعد هجوم السابع من تشرين الأول. ولكن فات أولئك الذين يقومون بحملات لإدانة معاناة سكان غزة والذين يظهرون أنفسهم كحاملي لواء القضية الفلسطينية، التمييز – كما كان الحال عام 1970 – بين موقفين مختلفين جذرياً: تبني موقف مبدئي أخلاقي (غالبًا بشكل منفصل عن الحقائق الموضوعية) من ناحية؛ وضرورة التصدي بحزم من ناحية أخرى، وهو ما تقوم به الأقطاب والأحزاب السيادية اللبنانية، لاستراتيجية تفكيك البنية اللبنانية وتحويل لبنان إلى مجرد بيدق تتلاعب به قوى إقليمية.
إن الفصائل والمسؤولين التنفيذيين الذين ينحازون، مدفوعين بإنسانية شبه ملائكية وبالافتقار إلى الوضوح، إلى خطاب المعسكر الإيراني، لا يفهمون أنهم يحولون أنفسهم إلى متواطئين مع الفصائل التي تجر اللبنانيين، بسبب مغامراتها الحربية العقيمة، من جديد إلى معاناة طويلة شبيهة بأحلك الفترات في السبعينيات والثمانينيات، والتي نختبر ذروتها حالياً.
لقد دفع اللبنانيون الثمن على مدى نصف قرن من الحيل والمناورات والمؤامرات التي مارستها مختلف القوى الإقليمية. لقد آن الأوان لرص الصفوف وللتعرف على الآخر ولترتيب البيت اللبناني من أجل ترسيخ حياة كريمة. عندها فقط ستبدو كل دروس الإنسانية والأخلاق وكأنها في سياقها الصحيح…
مواضيع ذات صلة :
كم بلغ عدد الشهداء والجرحى منذ بدء الحرب؟ | تفاؤل وهمي والحرب تتصاعد | إنقسام في كواليس الفريق الممانع بين مَن يدعو إلى مواصلة الحرب ومَن يعترف بصعوبة الوضع |