على خطا بيتهوفن.. ثورة الرباعيات الوترية
ترجمة “هنا لبنان”
كتب Alain E. Andrea لـ”Ici Beyrouth“:
ثورة وترية جريئة أحدثها بيتهوفن من خلال تطويره للرباعيات ورحلة نضاله خارج الإطار الكلاسيكي البحت. باكورة أعمال الموسيقار الخالد، رباعيات “رازوموفسكي”، التي أعاد فيها تعريف بنية الرباعية ومدة النغم والتعبير بشكل أعاد تعريف الرومانتيكية الموسيقية، قبل أن تعبّد رباعيات بيتهوفن الخمس الأخيرة، بما فيها Grande Fugue وثورتها الراديكالية، الطريق أمام حداثة تجاوزت العصر.
في البدء كان الصمت..ومن رحم ذلك التناغم السامي، انطلق الصوت ومنح الحياة للموسيقى. تلك هي قصة الفن الذي قضم الثمرة المحرمة للإبداع الموسيقي، فكان شرارة تمرد ختمت قطيعة التحالف مع الصمت الأصلي. وهكذا بدأت المغامرة الجريئة وغير المعهودة في تلك المناطق الصوتية التي لم يكشف عنها النقاب. وفي تلك الرحلة، متاهات الملهمات وتطويع للتنافر وتحويله إلى مصدر للإبداع. مذاك، تمحور الإبداع وعمل الموسيقيين حول الهروب الدائم من أشكال الصمت والبحث بلا هوادة عن جوهر التناغم الأساسي. وهكذا، في رحلة الخلاص المرهقة هذه، سعى الملحنون على مر العصور، للعثور على “نجم الشمال” الخاص بهم وتوجيه الصوت نحو الفن الموسيقي.
لم يسلك لودفيج فان بيتهوفن (1770-1827)، كما يشهد تاريخه، ذلك الدرب بأي حال من الأحوال، واختصرت رحلته مصيراً بحاله.. فمقابل ثلة الباحثين عن الصوت، كان ذلك المستمع الوفي للتناغم الأسمى.. للصمت الأصلي. ولم يكمن بحثه حول الصمت بل حول أثره المحفور في نفوس المستمعين. ومنحت هذه العبقرية الإنسانية الخالدة، على مدار حياة مشبعة بازدواجية البطولة والشفقة، أذنًا داخلية لا تفوت أياً من نفحات الآخرة التي تطارد الوجود وتحول كاتدرائياتها الموسيقية إلى فن مقدس يحرر النفس البشرية من القيود الدنيوية ويرفعها إلى مرتبة السمو. في أعظم روائع بيتهوفن التي بلغت ذروتها مع في سلم ري الصغير فيIXe symphonie en ré mineur ولكن أيضًا في Missa Solemnis، يشتعل شغف الأخوة من خلال استحضار قبلة عالمية تهدف لاحتضان العالم بأسره.
إحتفاء بذكرى ميلاد ذلك الشجاع الغامض، يحلل واحد من أبرز صناع الموسيقى الفنية الغربية، عالم الموسيقى برنارد فورنييه، الخبير في أعمال الملحن الألماني، موسيقى وحياة الرجل الذي نظم أعظم ثورة موسيقية في حوار خاص لـ Ici Beyrouth.
– تشكل رباعيات بيتهوفن الستة عشر الوترية، من مصنف Opus 18 وحتى Opus 135 بالإضافة إلى Grande Fugue opus 133 مجموعة فريدة من نوعها في جعبة الملحن الألماني. وكان بيتهوفن نفسه مدركًا للأهمية التاريخية لنهجه، سواء في تطور الرباعية الوترية أو في آفاقها المستقبلية. من خلال إعادة تشكيل مفهوم هذا النوع، أشعل بيتهوفن شرارة معركة مفتوحة وحاسمة ضد التقاليد الموسيقية الكلاسيكية. كيف ترى من منظورك كخبير في أعمال بيتهوفن والرباعية الوترية هذه الثورة؟
لقد غاص بيتهوفن في عالم الرباعيات الوترية في وقت متأخر نسبياً (والحال سيان مع السيمفونية) لأنه كان على يقين بقيمة إرث كل من هايدن وموزارت. كما كتب العديد من الأعمال المخصصة للأوتار المنفردة قبل الرباعية رقم 18 التي تمثل دخوله الرسمي إلى أعلى أنواع الرباعية. وبإمكاننا الاستشهاد بثنائيات للكمان والفيولا [1796]، وخمس ثلاثيات [1794-1797] وخماسية [1795]؛ كما كتب بعض القطع الصغيرة في مجال الرباعية الوترية، المينويت [1792]، ومقدمتين وشرود 1794-1795، وتلحين شرود لهاندل. وتعامل حصراً مع الرباعيات الحقيقية، الستة من أعماله الـ 18، في نهاية عام 1798 ولم ينه الرباعية السادسة حتى صيف عام 1800. بالتالي، هو ملحن متمرس وله بالفعل نحو مئة لحن في رصيده (لا يحمل العديد منها رقمًا مصنفًا خصوصًا المؤلفة في بون حتى لو كان بينها روائع). وعندما بدأ بتأليف مقطوعته التي تحمل الرقم 18، كان هايدن على وشك إكمال رباعياته الأخيرة، وهما اثنتان من Opus 77 وتم نشرهما في عام 1799، قبل عامين من نشر رباعيات بيتهوفن الأولى. وأبصرت هاتان المجموعتان من الرباعيات، الاثنتان لهايدن والستة لبيتهوفن، النور برعاية الشخص نفسه، الأمير لوبكويتز، وههنا نلحظ نوعًا من الدور الرمزي فيبدو “كالأب الروحي للرباعية” بالنسبة لذلك الابن المشاغب الذي يمثله بيتهوفن.
بالنسبة لهذا الأخير، لم يتعلق الأمر يوماً بتقليد هايدن و/أو موزارت، أو المقارنة أو قياس نفسه بهما، ولكن “بتعبيد طريق جديد”، كما قال لكرومفولز لاحقًا.
وحتى ولو عكس عمل بيتهوفن احتراماً تقريبياً لكبار الكلاسيكيات، لا شك بأن الابتكار واضح في مصنفه 18 سواء على المستوى الشكلي أو على مستوى الكتابة، وكذلك على المستوى التعبيري. ويمكن ملاحظة ذلك من المقطوعة الأولى، Opus 18 n° 3 والتي وصفها عالم الموسيقى أ.ب. ماركس بالأقرب إلى بيتهوفن من الرباعية. في الواقع، إنها “رباعية” بالكامل، ولكنها رباعية تم فيها التأكيد بالفعل على المفهوم البيتهوفيني لهذا النوع، حتى لو لم يكن بطريقة جذرية. ويتجلى هذا بشكل خاص في افتتاح الرباعية التي تحملنا منذ اللحظة الأولى إلى بيئة حالمة وهادئة وحزينة بحنو لم نعهده في أي مقدمة رباعية. في النهاية، كتابة الرباعية مرآة الابتكار الأكثر وضوحاً حيث يترجم بيتهوفن الخفة والجاذبية ويجمع بينهما بطريقة شخصية للغاية. وتقشعر الأبدان من الطريقة التي تحتوي فيها المستقبل نفسه كما كان أندريه بريتون يقول:
– تخترع السيمفونية الأولى لبيتهوفن (أداجيو)، من ناحية جمالية جديدة حزينة وشجية مع إرساء شعرية الصمت المبتكر والحيوي للغاية.
– وهناك “مالينكونيا” مقدمة لخاتمة المقطوعة رقم 6، من ناحية أخرى، والتي تحفر في أعماق الروح، والحركة ككل هي علاوة على ذلك المثال الأول لجدلية الكتل المتناقضة التي ستلعب دورًا أساسياً في العديد من الأعمال بالطريقة الأخيرة ولا سيما في الرباعيات Opus 132 و 135.
في الواقع، يمكننا أن نذكر في كل رباعية العديد من العناصر المبتكرة التي تميز هذه Opus 18 عن كل ما تم إنتاجه في سياق هذا النوع، بما في ذلك الروائع الكبيرة Opus 102 لموزارت وOpus 76 لهايدن.
ولكن الثورة الحقيقية في هذا النوع حدثت مع رباعيات “رازوموفسكي” الثلاثة، لدرجة أنه يمكن اعتبار عام 1806 بمثابة فجر الولادة الثانية للرباعية. وينعكس هذا من افتتاحية Opus 59 No. 1 حيث يدخل التشيلو في المقدمة عوضا عن الكمان ليغزو الوجود بالجهير من التشيلو وصولا للنغمات العالية للكمان. ويساهم هذا الترتيب بتصعيد لحوالي 30 ثانية ليس فقط على المستوى المعتاد للفروق الديناميكية الدقيقة، ولكن أيضًا على مستوى كتلة الصوت التي تتكثف تدريجياً في مساحة الصوت. بالإضافة إلى ذلك، هناك حركة ثانية تثور على الكلاسيكية، وتتجلى من خلال الموضوع الإيقاعي البحت المبني على نغمة واحدة تكررت 15 مرة من مفهوم ما قبل بارتوك. كما يظهر اختراع نوع جديد من التعبير العاطفي في أعقاب الحركة البطيئة لـ Opus 18 No. 1 في ترتيب غير عادي في مقطوعة Adagio Moto e Mesto المبنية على موضوعين. أما الخاتمة، التي ترتكز على إيقاع مستوحى من فولكلور روسي، فتبني مسارًا تعبيريًا يبدأ من رقصة فلاحية مرحة ساخرة إلى غناء طقوسي مشبع بالجاذبية المتقدة. في هذه الرباعية، يحطم بيتهوفن كل حدود خطاب الرباعية الكلاسيكية من حيث المدة (ضعف رباعية هايدن) والحدة (نطاق غير مسبوق من الفروق الديناميكية الدقيقة) والكتلة والتلحين دون أن ننسى التعبير. علاوة على ذلك، تنفرد هذه الرباعية بشكل كبير لدرجة أنها تفرض نفسها بقوة كشخص يتحرك دائماً إلى الأمام على الرغم من كل الصعاب.
تكتب الرباعيات الخمس التي تنتمي إلى النمط الثاني للملحن في الواقع ميثاق الرباعية الرومنطيقية وما بعدها، وهي تحدد معالم هذا النوع لمدة مائة عام؛ وعلى الرغم من درجة الجمال في الأعمال، لم يأت أي من خلفاء بيتهوفن العظماء بابتكارات حاسمة مقارنة بما نجده في هذه الرباعيات المكتوبة من عام 1806 إلى عام 1810.
لكن بيتهوفن لن يتوقف عند هذا الحد لأنه، مع رباعياته الخمس الأخيرة Grande Fugue ، المكتوبة من عام 1824 إلى عام 1826 – بعد ميسا سولمنيس (Missa Solemnis ) والسيمفونية التاسعة التي تحمل آثارها، سيحدث ثورة أكثر راديكالية وعمقًا تختلف عن السابق من حيث كمية الابتكارات. الأكثر إثارة يتعلق بهندسة الأعمال التي، بالنسبة لثلاث منها (Opus 132 و130 و131 حسب ترتيب تكوينها)، تفلت من قانون الحركات الأربع مع صدور 5 و6 و7 على التوالي، السبع في Opus 131 في تدفق واحد، في مدة تتراوح من أقل من دقيقة إلى أكثر من ربع ساعة إنطلاقا من نفس المصدر الذي يولد أربع نغمات افتتاحية.
في الختام، أحدثت هذه الرباعية تغييرات ضخمة لدرجة أنها ستظل غير مفهومة لفترة طويلة ولن تجد استمرارًا حقيقيًا إلا جزئيًا مع المدرسة الثانية في فيينا وبارتوك. كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن Grande Fugue، التي كتبت في الأصل كحركة سادسة من Opus 130، لا تزال حتى اليوم تحفة فنية غامضة.. وقطعة أتت من الحداثة. أما العودة إلى الحركات الأربع في الختام في Opus 135، فليس للدلالة على عودة كلاسيكية، بقدر ما يفتح الطريق أمام نوع مختلف من الحداثة: إقامة الجسور من حركة إلى حركة، فيبرن وسترافينسكي وماهلر وشوستاكوفيتش، واستكمال ذلك الحوار الرباعي الذي يجمع، كما قال رومان رولان، أصوات مختلفة من نفس الروح.
مواضيع ذات صلة :
على خطا بيتهوفن.. الأسطورة |