لنتأقلم مع الوقائع الجديدة
ترجمة “هنا لبنان”
كتب ديفيد هيل لـ”This Is Beirut“:
أبرز التحديات الصعبة التي قد نواجهها في الشؤون الخارجية، كما هو الحال في الحياة، هو التعامل مع الحيثيات الجديدة. فالحكم الناجح يستلزم تحديد ماهية هذه الحيثيات أو الحقائق المستجدّة وتجهيز السياسات اللازمة لحماية المصالح الوطنية وتعزيزها. في المقابل، فإنّ عدم القدرة على تعديل الاستراتيجيات لمواجهة أيّ مستجدات يعدّ مؤشراً للفشل الوشيك.
المأساة التي عايشها الإسرائيليون والفلسطينيون منذ السابع من تشرين الأوّل تعد اختبارًا للولايات المتحدة وشركائها في إسرائيل والعالم العربي وأوروبا.
ومع أنّ الوقت لم يحن لتقييم الأداء، غير أنّ لجوء القادة إلى النماذج القديمة الفاشلة لا يوحي بالثقة، إذ كيف يمكنهم استعادة الاستقرار والتأسيس للسلام باستخدام مفاهيم لم تنجح ليس فقط في الماضي ولكن قد ساهمت عرضيًا في زرع بذور الأزمة الحالية؟
لذا لا بدّ من تعديل الافتراضات والمناهج بما يتلاءم والواقع الجديد.
وفي هذه السطور، نستعرض بعض الأمثلة على النهج القديم الذي يتطلّب التعديل في ضوء الوقائع الجديدة بعد 7 أكتوبر:
– “السلطة الفلسطينية تتمتع بالمصداقية وتمتلك كل ما يلزم لإدارة غزة”.
على الرغم من أنّ رجال حركة فتح الفاسدين والعاجزين والذين لا يتمتعون بالشعبية أوالمصداقية تمكنوا من البقاء في الفقاعة التي تمثلها رام الله، إلا أنّهم لن ينجحوا في الصمود طويلاً في غزة. وسيواجهون في وقت قريب تحدياً تفرضه قوى التطرف “القديمة الجديدة”. وفي كل الأحوال، الحكومة الإسرائيلية وضعت خطاً أحمر صارماً منذ البداية: هي لا تخوض الحرب في غزة لإعادة ترسيخ السلطة الفلسطينية.
– “يمكن للأمم المتحدة الحفاظ على السلام وللاتحاد الأوروبي إدارة غزة”.
يكفي لدحض هذا النهج ورؤية عيوبه النظر في حال قوات اليونيفيل في لبنان. تكلف قوة اليونيفيل 500 مليون دولار سنوياً، إلا أن كل جهودها موجهة في ظل الأزمة الحالية نحو حماية قواتها، وليس اللبنانيين أو الإسرائيليين. هذه ليست دعوة لرحيل قوات اليونيفيل، فهذا من شأنه أن يخلق مستوى جديداً من عدم اليقين ومضاعفة الأزمة في جنوب لبنان. لكن تكرار هذا السيناريو في غزة لا يمكن أن يسهم بأي إنجاز قيم.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإنّ اقتراح مفوض السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بإرسال مسؤولين إداريين لتسيير قطاع غزة، مضحك نوعاً ما. فقلة منهم هم الذين يتحدثون اللغة السائدة، وخبرتهم في تنظيم اقتصاد الاتحاد الأوروبي لا تنطبق على الوضع المزري في غزة، وتدابير حمايتهم ستضيف طبقة جديدة من التعقيدات إلى مجموعة المشاكل المحيرة بالفعل. الإقتراح يستحق الشكر ولكن لا!
– “الجهد المبذول لتحقيق حل الدولتين هو النهج الأفضل لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
شهدت خلال مسيرتي الدبلوماسية على مدى 38 عامًا، ثماني مبادرات أميركية رئيسية لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين كما شاركت بنشاط في واحدة منها. ولا شك بأنّه نادراً ما نقصت طاقة أو قيادة أو إبداع واشنطن الفكري في هذا الصدد. ومع ذلك، وعلى الرغم من تجربة كل سيناريو في الدليل الدبلوماسي، لم نواجه سوى الفشل في كل مرة. هذا ليس الوقت المناسب للولايات المتحدة للتخلي عن مفهوم الدولتين؛ ولكن هذا ليس الوقت المناسب أيضاً لإطلاق مبادرة أخرى حسنة النية وسيئة الإعداد وغير واقعية. إن لم يكن هذا الطرح ملائماً قبل السابع من تشرين الأول، فما الذي يجعل أياً كان يعتقد أنّ المناخ بعد ذلك التاريخ أكثر ملاءمة؟ عدا عن ذلك، يتعين على أي استراتيجية أميركية أن تأخذ في الاعتبار الوقائع السياسية الجديدة في إسرائيل وفي غزة وفي الضفة الغربية، حيث من المرجح أن يعارض الزعماء وعامة الناس التسوية. والجدير بالذكر أن المتخاصمين في هذا السياق ما عادوا هم أنفسهم الأطراف التي وقعت على اتفاقيات أوسلو وتلك هي الحال منذ سنوات. فالسياسة الإسرائيلية تحركت نحو اليمين، في حين أصبحت إيران وحماس، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، القوة المعاكسة. كما تبخر تأييد حل الدولتين في إسرائيل ووصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق بين الفلسطينيين. بالتالي، يضمن إطلاق مبادرة حل الدولتين في مثل هذا السياق الوصول إلى طريق مسدود بأسرع طريقة، مما يزيد من تأجيج التطرف.
– “يمكن تجاهل العامل الإيراني أثناء السعي لتحقيق السلام الإسرائيلي الفلسطيني في بلاد الشام”.
تسيطر إيران على أربع عواصم عربية: بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء. وهي التي قامت بتسليح وتمويل حماس. كما صممت استراتيجية إقليمية، بما في ذلك في غزة، للضغط على الولايات المتحدة وشركائها. إيران هي التي تحدد الأجندة في المنطقة. وهي التي تقرر أين ومتى تلحق الألم بأيّ كان، في حين أن الولايات المتحدة في وضع رد الفعل. وإلى أن تنقلب الطاولة ضد إيران، ويتم استعادة الردع، ستستمر إيران بالعبث بالاستقرار.
هنا نجد أنفسنا أمام خيارين: إما استيعاب واسترضاء إيران، أو التصدي لها. إنه ليس خيارًا مستساغًا، ولكن ما لم يرغب العالم برؤية إيران ووكلائها يرتكبون هجمات على غرار هجمات 7 تشرين الأوّل ضد أي شخص في أي وقت أو مكان يريدونه، فلن يكون هناك خيار على الإطلاق.
وبالتالي لابد أن يبدأ خلق سياق للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين باستراتيجية هجومية مستمرة لتقييد قدرة إيران على عرقلة مثل هذا السلام.
وحتى مع احتدام الصراع، تبقى هناك حاجة للدبلوماسية. وبعيداً عن أهمية العمل الحاسم لاستعادة المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح الرهائن، آن الأوان لوضع أسس سياق المستقبل. ربما تبدأ هذه “الأيام الفاصلة” بفرض إجراءات دولية فعالة لمنع تدفق الأسلحة من سيناء والبحر الأبيض المتوسط إلى غزة. وقد يظهر ذلك للإسرائيليين أن العالم يأخذ أمنهم على محمل الجد. وبالتوازي، ينبغي تمكين الشعب الفلسطيني، وتحديداً أولئك المقيمين في غزة، من التعبير عن أفكارهم حول مستقبلهم. ولا شك بأن لا حماس ولا فتح تميلان للإصغاء لهؤلاء، لأنهما تعلمان أن تطلعاتهم تشمل رحيل الحركتين. ومن هذا المنطلق، لا بد من إيلاء الإنتباه لهذه الأصوات والإصغاء إليها.
وأيضاً، لا بد من أن نكرم دبلوماسية الماضي بينما نقلب صفحتها، فاتفاقيات مدريد وأوسلو التي حملت الأمل لعقد من الزمن لم تفضِ إلى النتائج المنشودة؛ ومن المرجح أن يؤدي إحياؤها في البيئة الحالية إلى الفشل نفسه. وفي أعقاب هذه الحرب مباشرة، ربما تشكل معالجة الاحتياجات الأمنية والإنسانية وإعادة الإعمار والحكم البلدي على المدى القصير أقصى ما يمكننا تحقيقه، وربما تكون مهاماً شاقة بما فيه الكفاية. ومع ذلك، سترسي الكرامة والأمان وتوفر بعض الوقت. وبالإنتظار، المطلوب مفاهيم مستقبلية تعكس الوقائع الجديدة ورغبات الناس الذين باتت حياتهم على المحك، وليس الحكمة التقليدية المفروضة من الخارج.
مواضيع ذات صلة :
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | تفاؤل وهمي والحرب تتصاعد | الجميّل تعليقًا على رسالة خامنئي إلى الشعب اللبناني: “ومن الحب ما قتل”! |