ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.. بين الحقيقة والخرافات!
كتب Michel Ghazal لـ”Ici Beyrouth“:
يشهد الجنوب اللبناني منذ عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول، توترات يومية في ظل المخاوف من التصعيد أو حتى الإنفجار.. هذا الوضع حفّز منذ بعض الوقت “باليه” دبلوماسية لهدفين: إعادة ترسيخ الهدوء على الحدود الجنوبية من جهة، وتحريك عجلة المفاوضات حول الحدود البرية من جهة أخرى.
المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، الذي انخرط في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ضاعف جهوده مؤخراً وتمحورت لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين حول تنفيذ القرار الأممي رقم 1701 (الذي أنهى حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل)، وحول نقاط الخلاف الحدودية الـ13 للخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 (من النقطة الوسيطة المعروفة بـ B1 على خط التلال الذي يربط رأس الناقورة بالنقطة BP1 ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي احتلتها إسرائيل بعد حرب الأيام الستة في حزيران 1967 وسواها).
ويكتسب اتفاق الحدود البحرية المبرم سابقاً بين البلدين في هذا النطاق أهمية خاصة، كما يفرض الواقع ضرورة الإشارة إلى العيوب العديدة التي تشوبه. وقد قدّم هذا الإتفاق الموقع في 27 تشرين الأول 2022 في العلن، في لبنان وفي إسرائيل والولايات المتحدة، بصفته إنجازاً تاريخياً ونجاحاً كبيراً. لكن كيف تبدو الحقيقة تحت المجهر اللبناني وعلى أرض الواقع؟
يعود الصراع على الخط الفاصل البحري بين لبنان وإسرائيل لأكثر من 12 سنة. وقد ترجم بحرب مواقف فإسرائيل تطالب من جهة بالخط رقم 1 على حدودها البحرية الشمالية، ولبنان يطالب بالخط 23 على حدوده الجنوبية من جهة أخرى. ويمثل هذان الخطان أصل المساحة المتنازع عليها والتي تبلغ 860 كيلومتر مربع.
استهلت المفاوضات غير المباشرة في 14 أكتوبر 2020 برعاية الأمم المتحدة، وبتسهيل من وسيطين أميركيين: جون ديروشر ثم آموس هوكستين. وطرح لبنان منذ البداية، خطاً جديداً هو الخط 29، مما منحه مساحة بحرية إضافية تبلغ 1430 كيلومتراً مربعاً. ولتسجيله رسمياً لدى الأمم المتحدة، كان يكفي تعديل المرسوم رقم 6433 بعد وضع الخط 23 في العام 2011. لكن لسوء الحظ، لم تتخذ السلطات السياسية اللبنانية هذه الخطوة أبداً، وتم الإبقاء على الخط 23 كخط رسمي.
وبعد عدة اضطرابات، تم التوصل لاتفاق بين إسرائيل ولبنان، وقبل الطرفان بالخط رقم 23. هذه النتيجة وصفت بـ”التاريخية” في بيان النصر الخاص بكل من البلدين. بالنسبة للأول، لأنها وقّعت مع دولة “معادية”، بشكل يسمح لها بتأمين حدودها الشمالية واستغلال غاز حقل كاريش دون أي عائق من “حزب الله”. وبالنسبة للثاني، لأنه دخل “نادي الدول المنتجة للغاز والنفط”، بعد الحصول على ما طالب به على الدوام، وتحديداً “إنقاذ اقتصاد البلاد والخروج من الأزمات التي يعيشها”.
لكن الكثير من الخرافات انتشرت حول هذا الاتفاق، وأهمها:
الخرافة الأولى: “هذا الاتفاق خشبة الخلاص للبنان وهو الذي سيجلب الرخاء والنمو الاقتصادي”.
الواقع: لا إيرادات قبل 7 إلى 10 سنوات.
نظراً لمدى خطورة الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان، حث الكثيرون البلاد على توقيع صفقة بأي ثمن. ومع ذلك، لا يخفى على كل متابع لهذا النوع من القضايا، أن لبنان لا يمكنه الحصول على أي إيرادات قبل فترة تتراوح من 7 إلى 10 سنوات. والدليل، أثبتت عملية الحفر الأولى في حقل “قانا” عدم نجاحها، وكان من الضروري انتظار ما بين 6 إلى 12 شهرًا قبل إجراء المزيد من الاستكشاف. وبمجرد اكتشاف الموارد القابلة للاستغلال تجاريًا، يجب الانتظار نحو 3 سنوات قبل التفكير بمرحلة التطوير ثم مرحلة الاستغلال.
الخرافة الثانية: “لبنان حصل على جميع حقوقه”
الواقع: بامتناعه عن تثبيت الخط 29 وتعديل المرسوم 6433، حرم لبنان نفسه من ورقة رابحة كانت ستسمح له بالحصول على مساحة بحرية إضافية تتراوح بين 500 و700 كيلومتر مربع.
لقد ثبت لبنان بالفعل الخط 23 المقدم لدى الأمم المتحدة عام 2011. لكن هل يتوافق مع كل ما يمكن أن يطمح إليه؟ بالطبع لا. وقد اتضح بالفعل، أن الحكومة كانت تمتلك دراسة من المكتبَ الهيدروغرافي للمملكة المتحدة (UKHO) تتيح لها النظر إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير لكن البعض سارع إلى قمعها. ومما زاد الطين بلة في وقت لاحق، اكتشاف أن هذا الخط وضع من قبل إسرائيل في العام 2009 لترسيم حدودها الشمالية!
وللتذكير، تمحورت إحدى نقاط الخلاف حول تأثير صخرة تيخيليت حيث يعتمد صفر تأثير لها بالنسبة للخط 29 وتأثير خط هوف اللذان يعتمدان مبدأ “خط الوسط”. وكان يجب مع ذلك جعل هذا السطر 29 رسميًا مسبقًا.
الخرافة الثالثة: “حقل قانا تابع للبنان بشكل كامل”.
الواقع: كل شيء يقع جنوب الخط 23 بعهدة إسرائيل.
لا يمكن القول إن اكتساب لبنان القدرة على الحفر عبر حقل الغاز بأكمله يعني حصوله على كامل الإيرادات المحتملة. وعلاوة على ذلك، ينص الاتفاق على “أن لإسرائيل حقوقاً اقتصادية في المستقبل”. بالإضافة إلى ذلك، سيتم التفاوض بشأن الاتفاقية المالية بين شركة TotalEnergies، مشغل البلوك 9 وإسرائيل. ويمنح هذا في الواقع، حق النقض للإسرائيليين الذين قد يعرضون استغلال هذا الحقل للخطر. إذاً، في هذه المرحلة، كل ما يقع شمال الخط 23 هو للبنان، في حين أن ما يقع جنوبه هو لإسرائيل، وفقاً للقوانين الدولية.
الخرافة الرابعة: لبنان لم يتنازل عن سيادته.
الواقع: يضفي تأكيد خط العوامات (الطفافات) شرعية على احتلال إسرائيل غير القانوني لمساحة 2.25 كيلومتر مربع من المساحة البحرية.
لقد وضعت إسرائيل هذا الخط من جانب واحد إبان انسحابها من لبنان عام 2000. وعلى الرغم من نفي الجهات السياسية الفاعلة التي تدعي “عدم تقديم أي تنازلات بشأن خط الطفافات وأن الاتفاق لم يترتب عليه أي آثار قانونية”، يضفي ذلك الواقع للأسف شرعية على جريمة لم يتم تسجيلها في أي وثيقة رسمية. أضف إلى ذلك أن الاحتلال غير القانوني لجزء من الأراضي اللبنانية لأسباب أمنية يتعارض بشكل بديهي مع المصالح السيادية للبنان.
الخرافة الخامسة: “سيوفر الاتفاق الأمن والاستقرار على الحدود الجنوبية مع إسرائيل”.
الحقيقة: قرار الحرب أو السلم في هذه المنطقة بيد حزب الله، وليس بيد السلطات السياسية اللبنانية.
لا يمكن للبنانيين، وتحديداً سكان الجنوب الذين أنهكتهم عقود من العنف والدمار، إلا أن يفرحوا بانحسار خطر الحرب.
ولكن من المؤسف أنه على الرغم من أن أمن الحدود واستقرارها يشكلان مصلحة مشتركة بين لبنان وإسرائيل، عاد التوتر على الحدود الجنوبية للبلاد بعد توغل حماس في إسرائيل في السابع من تشرين الأول. وبقي تبادل إطلاق النار على الرغم من احتوائه يسجل بوتيرة يومية بين الحزب وإسرائيل. كما أن لا أحد يستطيع التنبؤ بما إذا كان خطر التصعيد والانزلاق إلى حرب مدمرة جديدة تحت السيطرة. وعلى صعيد الحرب والسلم، يرى اللبنانيون أن المرجعيات السياسية غائبة.
باختصار، لقد خففت السلطات السياسية اللبنانية من الحقيقة حول محتوى هذا الإتفاق وأخفت شوائبه لجعله مقبولاً بشكل أكبر. وعلى الرغم من بعض جوانبه الإيجابية، ينبغي النظر إليه كفرصة ضائعة وليس كانتصار مدوٍّ. وفي سياق المفاوضات المستقبلية، ينبغي تذكر أحد العيوب، وتحديداً عدم ذكر نقطة رأس الناقورة، كما في الحدود المرسمة اتفاقية “بوليه نيوكومب (1923)”، كنقطة بداية للترسيم بين البلدين. واليوم مع استئناف المفاوضات حول الحدود البرية، هل سيتعلم القادة السياسيون اللبنانيون من أخطاء المفاوضات حول الحدود البحرية لتجنب الإضرار بمصالح لبنان المشروعة وسيادته؟