لبنان: دروس من التاريخ الدبلوماسي الأميركي
ترجمة “هنا لبنان”
كتب David Hale لـ”This is beirut“:
بينما تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها التعامل في هذه الآونة، مع الصراع في الشرق الأوسط، يمكن لصنّاع السياسات الأميركيين استخلاص العبر من دروس الماضي والتعلم من نجاحات وإخفاقات أسلافهم.
ولأنّ لبنان يمثل نموذجاً مصغراً لهذه المنطقة، يوفر التاريخ الدبلوماسي الأميركي فيه، تجارب ثرية كفيلة بتوجيه واشنطن في سياق الأزمة الحالية في الشرق الأوسط.
هذا ما يبني عليه بالتحديد وبشكل متواضع، كتابي بعنوان “الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان” (American Diplomacy toward Lebanon). ويدرس هذا الكتاب الذي صدر للتو، ستة حالات على مدى ثمانين عاماً من تاريخ العلاقات الأميركية مع لبنان المستقل. وتكشف هذه الفترة التاريخية عن نمط متكرر، يمكن اختصاره بالتنقل المتذبذب بين قمم الإنخراط النشط وأودية الإهمال. فقد عمل الديبلوماسيون الأميركيون بين عامي 1943 و 1945، خلف الكواليس في الغالب من أجل ضمان الاستقلال الحقيقي وممارسة تقرير المصير للبنانيين، على الرغم من مماطلة الإستعمار الفرنسي. وفي العام 1958، أرسل الرئيس أيزنهاور 14 ألف جندي ودبلوماسياً واحداً إلى لبنان لحل أزمة عنيفة بين العناصر الموالية للغرب والقوميين العرب المدعومين من الرئيس المصري جمال عبد الناصر آنذاك. ونجحت الدبلوماسية الأميركية، مدعومة بعزيمتنا وبقوتنا العسكرية، في التوصل لتسويات سياسية بين اللبنانيين، وهذا ما سمح بتفعيل صيغة تقاسم السلطة الهشة في البلاد مجدداً. وبعد انتشار دام ثلاثة أشهر، غادر آخر جنود المارينز بسلام.
في العام 1976، وعلى الرغم من تصنيف القادة السوريين والإسرائيليين، منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان كعدو مشترك، لم يكف الإسرائيليون عن القلق من استغلال السوريين وجودهم المسلح في لبنان لتهديد إسرائيل. فأرسل مبعوث أميركي آخر وضع “خطوطاً حمراء” غير مكتوبة لإبقاء السوريين بعيداً عن الحدود الشمالية لإسرائيل، وتفادي أي هجوم إسرائيلي. وفي الفترة الممتدة بين 1982 و1984، أعادت الولايات المتحدة إرسال قوات مشاة البحرية، لتخليص إسرائيل من غزوها للبنان وحصارها لبيروت. وكانت إسرائيل تسعى للتخلص من منظمة التحرير الفلسطينية ومن الوجود السوري المسلح وتنصيب رئيس لبناني يميل للتطبيع. ونُظِر إلى الولايات المتحدة نفسها كضحية وكفاعل محتمل في صراع بين الفصائل اللبنانية والدول الإقليمية. وانتهى الأمر بمغادرة مشاة البحرية مخلفين وراءهم الفراغ، بعد شنّ حزب الله هجوماً على ثكنتهم عام 1983.
في تسعينيات القرن العشرين، تخلت الولايات المتحدة عن لبنان لصالح سوريا، في محاولة بحث عقيمة ولو أنّ النوايا حسنة، عن السلام بين إسرائيل وسوريا. وتطلب الأمر وجوداً عسكرياً سورياً في لبنان من أجل نزع سلاح حزب الله في حال توصلت سوريا لسلام مع إسرائيل. لكن سوريا وإيران استغلتا ذلك في الواقع لتعزيز نفوذهما في لبنان، وما لبث حزب الله أي وكيلهما، من النمو من خلية إرهابية صغيرة وخطيرة ليصبح تهديده على نطاق دولي وإقليمي، ثم تسلم زمام السلطة في لبنان. وأخيراً، انضمت الولايات المتحدة وفرنسا في العام 2004، للرأي العام اللبناني بهدف إجبار القوات السورية على الانسحاب بعد الاغتيال الصادم لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
ومع ذلك، طغت الحرب التي اندلعت في العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله على ثورة الأرز، قبل أن ينتهي الصراع بوساطة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وبحلول العام 2008، سادت في الدولة الفاشلة التي أضحاها لبنان، أسلحة حزب الله والمحسوبيات المزمنة والفساد والتدخلات الأجنبية والإنقسام بين رؤيتين: الرؤية الموجهة نحو الغرب وتلك الموجهة نحو إيران. ولم يأت السخط الصارخ في صفوف الشباب وإعلان مناهضة جميع زعماء الطوائف – من خلال شعار “كلن يعني كلن” – مفاجئاً، لكنه لم يشكل تحدياً حقيقياً للمصالح الراسخة.
لا شك بأنه لا يمكن تحميل الولايات المتحدة مسؤولية العلل التي تثقل كاهل لبنان، لكن التدخل الأميركي بشكل متذبذب وغير ثابت ساهم بإضعاف أصدقائنا وعزز من قوة أعدائنا.
وتبيّن معظم الحالات المدروسة كيف اصطدمت السياسات الأميركية والإفراط في الطموح بصعوبة الواقع في لبنان والشرق الأوسط. يظهر ذلك جموداً في جهود واشنطن لفترات قبل عودتها للانخراط بعد مضي سنوات، مع اندلاع أزمة جديدة. لكن فترات الجمود والإهمال هذه تسببت بتآكل النفوذ والتأثير الأميركي. وبالتالي، يكمن مفتاح الحل في تجنب المبالغة في التوقعات حول ما يمكن للولايات المتحدة تحقيقه، دون أن يعني ذلك التخلي عن ساحة التدخل تماماً. وهذا يعني الإستعاضة عن القيم والوديان بدرجات الإنخراط الثابت.
هذه الظاهرة تتكشف جلياً اليوم مع تلاشي عقود من المبادرات الأميركية لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس حل الدولتين في العام 2014. كانت تلك المرة الأخيرة التي حاولت فيها الولايات المتحدة سد الفجوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في محاولة اصطدمت بالفشل على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الرئيس الأميركي ووزير الخارجية. ومن ثم، تجاوزت واشنطن الفلسطينيين في العقد التالي، لتركز في نهاية المطاف على التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. لكن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، عاد مجدداً ليطفو إلى السطح مع استئناف أعمال العنف الحالية، ويبدو أن بعض صناع السياسات يعتقدون بإمكانية استئناف مفاوضات إصلاح الحكم الفلسطيني على أساس حل الدولتين، من حيث توقفت في العام 2014.
ومع ذلك، كان الإهمال الأميركي على مدى عقد، كفيلاً بظهور حقائق جديدة. فإيران تلعب دوراً مركزياً أكبر بصفتها عنصراً فاعلاً ومخرباً في المشرق. كما أن المبادئ المقدسة التي قامت عليها المبادرات الأميركية السابقة باتت تفتقر للدعم الشعبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وتضاءلت الثقة لدى الجانبين بنوايا الطرف الآخر. وهذا يعني أنّ الوقت قد حان لطرح أفكار جديدة تسمح بالتعامل مع هذه الحقائق الجديدة بدلاً من العمل على إحياء المبادرات الفاشلة.
علاوة على ذلك، يتوجب علينا في الجانب اللبناني، الوقوف بحزم ضد أي تراجع. وتفيد تقارير بأنّ الوسطاء الأميركيين يركزون على إعادة تطبيق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 1996 بين إسرائيل وحزب الله كنموذج لاستعادة الهدوء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية حالياً. لكن هذا النهج سيكون غير معقول. فقد أضفى وقف إطلاق النار عام 1996 الشرعية على هجمات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي من خلال إنشاء مجموعة مراقبة لتقييم الهجمات التي تجاوزت “خطوط حمراء” معينة مقبولة من كلا الجانبين.
وفي المقابل، استبعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي تم تبنيه في العام 2006، العنف وطالب بنزع سلاح حزب الله. والآن وقد ثبت أن التنفيذ الكامل للقرار 1701 بعيد المنال، سينظر للمطالبة بأي شيء أقل من ذلك، كنصر كبير لإيران ووكلائها.
ويمكن تعلم درس آخر من الممارسات الدبلوماسية الأميركية في لبنان: عدم فعالية أي استراتيجية حماية تركز حصراً على الوكلاء، دون راعيتهم (إيران)، في حماية مصالح الولايات المتحدة بالشكل المطلوب.
الشرق الأوسط بات عبارة عن ساحة عمليات مترابطة. وهذا ما يدركه أصدقاؤنا وأعداؤنا جيداً، ومع ذلك غالباً ما تتهرب الولايات المتحدة من التعامل مع هذا الواقع. لم تنتقم إدارة ريغان أبداً من الوكيل الإيراني والسوري أي حزب الله، بعد قتله 241 من مشاة البحرية الأميركية عام 1983. وبالتالي، ليس من المفاجئ أن تعمد إيران بعدها لتسريع هجماتها بالوكالة على المنشآت الدبلوماسية والعسكرية الأميركية واختطاف مسؤولين ومدنيين أميركيين من شوارع بيروت..
في النهاية، الضعف والتكيف يولدان المزيد من العنف؛ أما القوة والردع فيجلبان السلام. ذلك هو الدرس الأساسي المستخلص من الدبلوماسية الأميركية في لبنان.
مواضيع ذات صلة :
بوتين يُحدّث “العقيدة النووية”.. محاولة روسيّة لرسم “خط أحمر” للولايات المتحدة وحلفائها | بايدن: العالم يواجه لحظة تغيير سياسي كبير | ترامب يختار ستيفن تشيونغ مديرا للاتصالات بالبيت الأبيض |