طهران: استراتيجية التعدي الإقليمي (2/2)
ترجمة “هنا لبنان”
كتب Alain Rodier لـ”Ici Beyrouth“:
استنكارات دولية بالجملة تتهم طهران بالضلوع بالأحداث في المنطقة: صواريخ حزب الله على شمال إسرائيل، ومضايقات الحوثيين للسفن في البحر الأحمر، والدعم اللوجستي لحماس في غزة، والهجمات على القواعد الأميركية. وهذا ليس بجديد فجمهورية إيران الإسلامية، استثمرت على مدى 45 عامًا، في توسيع نفوذها في المنطقة. أما نقطة البداية فالثورة الدينية غير المسبوقة، التي قادها آية الله الخميني عام 1979. وفرض الخميني، متوجاً بهالة الشيعة الاثني عشرية، سيادة المرشد الديني وحدد “توسيع السيادة الإلهية في العالم والدفاع عن المظلومين ووحدة العالم الإسلامي” كأهداف أساسية للدولة الدينية.
يسلط هذا المقال في جزئه الثاني، الضوء على أصول المسيانية الفارسية التي غيرت التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وصدرت النشاط الإسلامي إلى الغرب في جوانبه الأكثر تطرفًا.
ترتكز رسالة الجمهورية الإسلامية على أيديولوجية واضحة: لا يحق لأي دولة تسمية نفسها بالإسلامية إلا إذا سعت لاستقلال الأمة ووحدتها.
بالعودة إلى التاريخ، ينبئ مؤلف قديم للخميني، أعادت السلطات الدينية نشره بداية العام 1980، بشكل لا لبس فيه بـ “الحرب المقدسة، التي تشن من أجل غزو البلدان والممالك، والتي تصبح واجباً بعد تشكيل الدولة الإسلامية بحضور الإمام أو بأمره. ذلك مع الإشارة إلى أنّ الإسلام يلزم جميع الرجال البالغين، غير المصابين بإعاقة أو بعجز، على الاستعداد للمشاركة في فتوحات البلدان لنشر الإسلام في جميع بلدان العالم، لضمان حصولها على علامة الخلاص الأبدي من خلال نور القانون السماوي. ويزعم البعض أنّ الإسلام يوصي بعدم شن الحرب. أولئك السفهاء لا يفقهون شيئاً. الإسلام يدعو لقتل جميع الكافرين تماماً كما سيقتلونكم جميعا”.
وردد آية الله خلخالي رفيق سفر الخميني، الذي تميز بقسوته الكبيرة على رأس المحاكم الإسلامية، صدى هذه الرسالة من خلال استحضار اللفتة الاثني عشرية التي لا تترك مكاناً لمن لا يريدون القتل في الإسلام. فـ”إمامنا علي قتل أكثر من 700 مرة في يوم واحد. وإذا تطلب إيماننا إراقة الدماء، فليكن! سنقوم بواجبنا”.
وبالتالي، نشر الثورة واجب ديني يقع على عاتق كل مسلم، وطهران تقدم نفسها كمركز لهذا المشروع.
وخلافاً لتوقعات عدد من المراقبين، لم تغير وفاة الخميني عام 1989 شيئاً، فسياسة التوسع لم تستمر فحسب، بل تعاظمت. ومن الواضح أنه على الرغم من العداء في الداخل والخارج، تمكنت الدولة الثيوقراطية من الحفاظ على هويتها.
وخلفت رؤية آيات الله الإسلامية (وليس فقط الشيعة) عواقب جيوسياسية كبيرة في الشرق الأوسط، قبل أن يمتد التهديد إلى الغرب من خلال صحوة الأصولية واستخدام الإرهاب. وبالفعل، بالكاد تأسست الجمهورية الإسلامية حتى لعنت السلطات الدينية الأنظمة الموالية للولايات المتحدة في المنطقة ودعت السكان الشيعة في العراق “للانتفاض ضد النظام البعثي الملحد، عدو الإسلام والشعب العراقي”.
الجمهورية الإسلامية في بيروت
في تشرين الثاني 1979، وفي تحد للاتفاقيات الدولية، اقتحم طلاب من أتباع خط الإمام سفارة الولايات المتحدة، وأسروا من فيها لمدة 444 يومًا.
وحين هاجمت مجموعة “كوماندوز” من الأصوليين الإسلاميين المعارضين للسلطة الملكية السعودية المسجد الحرام في مكة، اتهمت الرياض إيران بأنها دفعت هذه العملية لتصدير ثورتها وفرض هيمنتها على المسلمين.
القوة التوسعية لطهران باتجاه الدول العربية اعتمدت في المقام الأول على الأقليات الشيعية في العراق ولبنان والإمارات، وصولاً إلى اليمن حيث دعمت قتال الحوثيين.
وفي أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 1985 (بعد اجتياح لبنان من عام 1982 إلى عام 1985 باتجاه الشريط الحدودي في جنوب لبنان حيث أنشأت “منطقة أمنية”)، خطط أسياد طهران لإنشاء جمهورية إسلامية في بيروت قوامها الطائفة الشيعية الإثني عشرية التي تمثل حوالي ثلث البلاد.
من المؤكد أن مشروع الجمهورية اللبنانية الإسلامية لم يبصر النور، ولكن حزب الله أصبح بدعم من طهران، بالفعل دولة داخل الدولة، وفي الوقت نفسه قاعدة استراتيجية أساسية لإيران التي أرسلت المئات من الحرس الثوري إلى بلاد الأرز. كيف لا وهناك ذلك الهدف الأولوي الآخر الذي تم التأكيد عليه بلا كلل: تدمير “الدولة الصهيونية” التي وصفها المرشد الحالي آية الله خامنئي بـ “الورم السرطاني في أرض الإسلام”.
وهذا ما يبرر اعتباراً من العام 2000، دعم حماس (وهي حركة سنية نشأت من جماعة الإخوان المسلمين) في غزة. وفي حين أنه من الممكن أن إيران لم تتورط بشكل مباشر في هجوم 7 أكتوبر، ليس هناك شك بأن طهران قامت في السنوات الأخيرة، بتجهيز وتدريب ميليشيات حماس بدعم من تابعها، حزب الله. ومن هنا أعلنت إسرائيل عزمها تقديم شكوى ضد إيران أمام محكمة العدل الدولية.
أعمال إرهابية متسلسلة
الجمهورية الإسلامية لم توفر أي وسيلة لنشر “رسالتها الروحية”. ولذلك، اعتبرت أجهزة الاستخبارات الغربية منذ عام 1981، أن معظم سفارات الجمهورية الإسلامية تشكل شبكة دعم للعمليات الإرهابية. كما أشارت دلائل عديدة إلى طهران كراعية لهجمات باريس 1985/1986، والتي ارتكبت عبر شبكة لوجستية لحزب الله لكبح التدخل الفرنسي في لبنان ووضع حد لدعم باريس لصدام حسين في حربه ضد إيران.
والمتفجرات هي نفسها التي استخدمت في الهجمات الانتحارية عام 1983 ضد القوات الفرنسية والأميركية المتمركزة في بيروت والتي تسببت بسقوط 300 قتيل. وفي سيناريو مشابه اعترت وجه سائق الشاحنة الانتحاري ابتسامة عريضة قبل الاندفاع نحو مبنى مشاة البحرية مع 10 أطنان من المتفجرات.. “ابتسامة الفرح” الشهيرة قبل التضحية العظيمة للشهيد الشيعي.
وفي خطبة عبر أثير إذاعة طهران عام 1986، أعلن رئيس الجمهورية المستقبلي، هاشمي رفسنجاني، أن “الأميركيين يلوموننا على الضربة التي تلقتها الولايات المتحدة في لبنان وعلى إذلالهم. وهم متورطون في ذلك”. وليس رحيل مشاة البحرية الأميركية والمظليين الفرنسيين من لبنان، ووفاة عدد منهم في هذه الظروف، إلّا انعكاساً لتأثير الثورة الإسلامية.
لا يسهل دائمًا فهم آلية عمل القوة الإيرانية بسبب التيارات المتعددة التي تتعارض أحيانًا داخلها. إذا كان تأثير إيران اليوم ينعكس بشكل ملموس كما هو الحال في لبنان أو العراق أو اليمن، فإنه غالباً ما يكون مخفياً وتتم الإجراءات باسم إيران دون أن تحمل التفاصيل توقيعه. ومن المحتمل أن يكون حدث 7 أكتوبر غير المسبوق قد هندس لتخريب اتفاقيات أبراهام التي تنص على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
والواقع أنّ إيران، تظل بشكل مباشر أو غير مباشر، مصدراً للمشاكل في منطقة غير مستقرة بالفعل. منذ خروج الأميركيين من العراق عام 2011، أثرت الميليشيات الشيعية على حياة البلاد. وفي سوريا، تقوم وحدات من فيلق القدس، وحدة النخبة من الحوس الثوري الإيراني التي جاءت لدعم بشار الأسد في قتاله ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، بمضايقة القوات الأميركية في المنطقة بانتظام للأسباب نفسها.
وفي نهاية كانون الثاني 2024، ضربت مسيرة قاعدة أميركية على الحدود السورية الأردنية، مما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين، بينما ردت واشنطن بقصف 85 موقعًا في العراق وسوريا فيها جماعات موالية لإيران.. تحذير صارم لإيران التي تتقن أيضاً، بمواجهة التهديد الأميركي الذي تضاعف منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، كيف تظهر البراغماتية من خلال كبح حماسة أتباعها، وتحديداً حزب الله في جنوب لبنان، حتى لا تقود المنطقة إلى صراع مع إيران وتغرقها في عواقب لا يمكن التنبؤ بها. ويظهر المعنى المزدوج لتصريحات زعيم حزب الله حسن نصر الله الإحراج الذي تعيشه طهران.
دولة معزولة
وبشكل عام، سمحت استراتيجية التعدي التي تنتهجها الجمهورية الإسلامية بتوسيع وجودها المسلح خارج حدودها بفضل شبكة من الحلفاء والوكلاء، بالإضافة إلى تشكيل ما تسميه محور المقاومة ضد الغرب وإسرائيل. ولكن هل حققت إيران الهدف الذي حدده وصي المهدي؟ من المؤكد أنّ جيران بلاد فارس ظلوا طيلة 45 عاماً يعانون من زعزعة الاستقرار بسبب الصحوة الشيعية المنظمة من قبل طهران. لكن الحركة على الجبهة مجمدة بشكل ما والرسالة الدينية ذابت في العمل العسكري السياسي وتصدير الثورة قد توقف. إيران اليوم، أسيرة أيديولوجيتها، دولة معزولة ومدانة من قبل المجتمع الدولي.. دولة تعاني من متلازمة القلعة المحاصرة. ويبدو سعيها لامتلاك قنبلة نووية اليوم أقرب لوسيلة ردع لضمان بقاء نظامها أكثر مما هي وسيلة لتحقيق النصر العالمي للإسلام.
مواضيع ذات صلة :
بعد جدليّة “اختفائه” إثر اغتيال نصر الله.. ظهور علنيّ لإسماعيل قاآني في طهران! | بعد الغموض والجدل.. ظهور قائد فيلق القدس في طهران | قوات إيرانية إلى لبنان! |