الإشاعة ووهم وقف إطلاق النار

ترجمة هنا لبنان 13 تموز, 2024

ترجمة “هنا لبنان”

كتب يوسف معوض لـ”Ici Beyrouth”:

ربما كان يجدر بالفنان والشاعر ميشال ساردو الذي غنى “إنها تسري، تسري، حمى الحب” الشهيرة، أن يهمهم “إنها تسري، تسري، حمى الشائعات المنتشرة” وعوارضها الجانبية التي تصيب السكان الذين يفتقرون للأمان.. وتحديداً من هم مثل شعبنا!
ويمكن استشراف ذلك من خلال الواقع اللبناني، حيث ضجت وسائل الإعلام مؤخراً بخبر (مؤكد أم لا)، حول تواصل المخابرات الألمانية مع نظيرتها في حزب الله..الموضوع جدي وخطير للغاية على ما يبدو. وحسب الخبر، يظهر أن برلين، التي لا تربطها عدائية مع الميليشيا الإيرانية بشكل خاص، أرسلت عناصرها إلى قادة هذه الأخيرة للمصالحة. وبمجرد انتشار هذه المعلومات، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي وسارع المعلقون المطلعون للقفز إلى الاستنتاجات: وقف إطلاق النار سار حالياً على جبهة غزة وعلى جبهة الجنوب اللبناني. ولكن الأمور لا تنتهي عند هذا الحد: ثمن هذه الصفقة الدولية هو تسليم لبنان إلى إيران!

المبالغة في التفكير وفي التفسير
هكذا هي الحال ببساطة، وبتنا متأكدين حتى من أن بلادنا مقيدة بدائرة نفوذ إيران وبأن الغرب تخلى عنا. ولكن لماذا؟
الأمر بديهي، من اللحظة التي نجح فيها آموس هوكشتاين وجان إيف لودريان بجمع وجهات النظر المتعارضة بين الأطراف المتقاتلة، بات الاتفاق على وقف إطلاق النار مضموناً. ومن ثم، ألم ينطلق ديفيد برنيع، رئيس الموساد، إلى الدوحة الجمعة الماضي للقاء رئيس وزراء قطر؟ وكان يفترض بهذا اللقاء أن يبحث في مقترحات حماس الداعية إلى وقف هذا الصراع الدموي المستمر منذ نحو تسعة أشهر. ولنتذكر أن الحركة الفلسطينية أبدت مرونة في هذه الحالة: فهي لم تعد تشترط التزام إسرائيل بوقف دائم لإطلاق النار حتى قبل توقيع الاتفاق كشرط مسبق.
ومن ثم تفصيل آخر: استقبل حسن نصر الله في 5 تموز وفداً من حماس، جاء لإبلاغه بقبول يحيى السنوار الاقتراح الأميركي بوقف إطلاق النار على عدة مراحل. إذا توقف القتال في غزة، فلن يكون هناك أي سبب، بحكم الظروف، لمواصلة الأعمال العدائية على الجبهة الشمالية لإسرائيل. ومع ذلك، فإن الحزب، على غرار إيران، لن يبرم الاتفاق دون المطالبة بثمن لإحلال الهدوء في الجليل الأعلى. لبنان هو إذاً، بعملية منطقية بسيطة، ورقة المساومة، إن لم نقل أضحوكة في هذه المساومة. ها نحن نرثي أنفسنا في الأكواخ السيادية وأمام شاشاتنا كلبنانيين متأصلين. ونرفض سيطرة طهران أو دمشق على أوهام الاستقلال التي تبقى لنا!

ولكن أليس هذا مثالًا رائعًا للإفراط في التفسير والتفكير؟ بمواجهة موقف لا نستطيع تبريره، نميل لاختراع السيناريوهات في محاولة للعثور على تفسير. لقد حذرنا كلود ليفي ستروس من الركون للعقل السحري لتخليصنا من الألم العقلي، بينما قدم برنارد أنسيلم نصيحة حول الاجترار، مشيراً إلى أنّ الدماغ يميل لمعالجة المعلومات السلبية بشكل أولوية من منظور الصحة العقلية.

ومع ذلك، في أفضل العوالم التي نعيش فيها، لن يكون وقف القتال إلا مؤقتاً ومحفوفاً بالمخاطر. لأننا ندرك أنّ جل ما يهم الولايات المتحدة هو التعامل مع الأمر الأكثر إلحاحاً، أي التوصل إلى هدنة بين المتحاربين مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. ومن بعدها، فليحدث ما يحدث!

المراد استمرار القتال
وفي الواقع، حتى لو تمكنت حماس من إظهار قدرة مذهلة على التكيف مع اعتباراتها الخاصة، وحتى لو اجتمع رؤساء أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأميركية في الدوحة لإبرام اتفاق محتمل، هذا لا يعني أن حكومة الحرب في الدولة اليهودية ستبيت النوايا. ليس لشيء إلا لعرقلة هذا السباق الأميركي نحو الهدنة. لأنه بغض النظر عما يقال، يبقى رئيس الوزراء الإسرائيلي رهينة يمينه المتطرف. وسبق لوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، أن هدد نتنياهو بالفعل بالانسحاب من الائتلاف في حالة تجاهل نصيحته. ووبخ شركاءه في الحكومة قائلاً إنه لم يحصل على دعم نصف مليون صوت من أجل أن يتخذ البعض القرارات الأمنية بشكل فردي، وليس بشكل جماعي كما هو متفق عليه.
إلا أن الكاتب الأميركي سيمور هيرش لفت مؤخراً نظر أصحاب النوايا الطيبة إلى عقبة رئيسية: لا يحظى وقف إطلاق النار الذي نعمل على صياغته بدعم أغلبية الإسرائيليين. ويريد هؤلاء القضاء بشكل نهائي على التهديد الذي يمثله حزب الله. وفي حال تقدم نتنياهو باقتراح لوقف القتال، بمعنى أن يوافق عليه بايدن، لن يتوانى الجمهور الإسرائيلي عن طرده من منصبه كرئيس للوزراء، دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، لأن إسرائيل تريد في العمق استمرار هذه الحرب. وبالنسبة لأولئك الذين يتظاهرون بتجاهل الأمر، تؤكد استطلاعات الرأي المختلفة التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي، وصحيفة معاريف اليومية، على سبيل المثال، بوضوح أن المناخ العام متجه نحو الأصعب. ويكفي أن سيناريو المعركة مع الميليشيات الإيرانية التي تسعى لإثارة المشاكل على الحدود الشمالية، احتمال يحظى بدعم 62 إلى 64% من الإسرائيليين من سكان الحدود.

أيتها العقول الصغيرة!
ولكن دعونا نعود إلى الإشاعة التي ذكرناها أعلاه والتي لا تكف عن الخلط بين وقف إطلاق النار في غزة والهدوء في الجنوب اللبناني، كما هي الحال مع مسألة ترسيم حدودنا. وحتى لو كانت هذه المواضيع الثلاثة مترابطة، فهل هذا يعني أن وقف النار سيجلب السلام إلى جبل عامل أو أن الثمن هو تسليم لبنان لإيران؟ لا علاقة سببية جهنمية في هذه الحالة. إذا تم التوافق على وقف إطلاق النار بالصدفة، فمن يضمن احترامه أصلاً؟ وبغياب وضوح النوايا لدى الطرفين، لا تعدو أي اتفاقية أو اتفاق أو معاهدة كونها أكثر من “حبر على ورق”.

وبشكل عام، لم يحصل أن تمت تسوية النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، بشكل نهائي، سواء داخليًا أو دوليًا. ولم تشهد بلداننا سوى فترات قصيرة من السلام من هدنة إلى أخرى، إذا استثنينا اتفاقيات كامب ديفيد 1978 التي أعادت سيناء إلى مصر وضمنت لها مصيرًا أفريقيًا أكثر مما هو مشرقي.
ربما يجب ألا ننسى أن الشرق الأوسط ساحة لصراعين “أزليين” عن جدارة: الصراع السني الشيعي، والصراع الإسرائيلي العربي. أما نحن اللبنانيون، فتتقاذفنا أمواج الصراعين.. مرة، يصفعنا مدّ الأولى، ومرة يغرقنا جزر الأخرى.. هذا، في الفترات التي لا يسحقنا تلاطمها معاً!

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us