بين الحقيقة والسراب
ترجمة “هنا لبنان”
كتب David Hale لـ “This is Beirut“:
شعوب الشرق الأوسط وتحديداً اللبنانيون والإسرائيليون والفلسطينيون وجيرانهم، على حافة الهاوية في ظل عدم اليقين السائد حول ما قد يحصل بعد مقتل إسماعيل هنية في طهران في 31 تموز 2024. وإنها لإهانة للإيرانيين أن يُغتال ضيفٌ إرهابي مكرّم داخل بيت شديد الحراسة إبان حفل تنصيب رئيسهم الجديد، الذي قُتل سلفه بشكل مهين أيضاً في تحطم مروحية خاضعة لملكية ولسيطرة إيران. أما القادة الإيرانيون فتمكنوا بالكاد من مشاركة التهديد والوعيد حول الانتقام دون المخاطرة بفقدان ماء الوجه بعد.
ليس أمام غير المطلعين على المعلومات الاستخباراتية سوى التكهن، ولكن ما الذي يعتقد الناس أنّ الايرانيين ينوون القيام به بالضبط؟ بعد المهانة الكبيرة التي مثلها اغتيال قائد كبير في الحرس الثوري الإيراني ومساعديه المباشرين في دمشق في نيسان، شن الإيرانيون هجوماً بوابل من المسيرات والصواريخ، نجحت إسرائيل والدول المجاورة بصدها. وعلى مستوى الدولة، لا يمكن لإيران تحمل حرب مع إسرائيل.
وعوضاً عن ذلك، ستواصل إيران على الأرجح حملتها ضد إسرائيل والتي بدأت في السابع من تشرين الأول على مستوى الحرب غير المتكافئة بالوكالة من جديد. وبهذه الطريقة، يستفيد القادة الإيرانيون من مزايا أكبر ومخاطر أقل. ومع ذلك، يتردد حزب الله في رفع حدة التصعيد بشكل كبير؛ حيث أنّ الحرب الشاملة مع إسرائيل لا تصب في مصلحة سيده الإيراني. وفي نهاية المطاف، لم تبنَ ترسانة حزب الله أصلاً للدفاع عن لبنان بل لردع إسرائيل عن مهاجمة إيران.
بالإضافة إلى ذلك، انتشرت على نطاق واسع تلميحات عن احتمال شن إيران وحلفائها هجمات إرهابية ضد أهداف إسرائيلية أو يهودية سهلة في جميع أنحاء العالم. لا شك بأنّ هذه الاستراتيجية مجربة وحقيقية، ولا يمكن إنكارها كما يصعب منعها. ولكن على الرغم من أنها استراتيجية مروعة، من غير المرجح أن تغير ميزان القوى في الشرق الأوسط. ولنستذكر على سبيل المثال، تفجيرات حزب الله التي استهدفت السفارة الإسرائيلية ومركز الجالية اليهودية في بوينس آيرس في عامي 1992 و1994. وأتت هذه الهجمات انتقاماً لاغتيال إسرائيل الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي عام 1992.
وفي المقلب الآخر، من غير المرجح أن تغير المقترحات الأميركية الحالية لتخفيض حدة القتال أو وقفه، النمط الأساسي للصراع المستمر منذ عقود. والحال أنّ التفكير التقليدي في واشنطن يفترض أن وقف إطلاق النار في غزة هو مفتاح التهدئة على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، وربما إلى جانب بعض التعديلات على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701.
والتعديلات كناية عن خطوات صغيرة كنقل بعض مقاتلي حزب الله إلى الشمال وبعض جنود الجيش اللبناني إلى الجنوب مع نشر المزيد من “قوات حفظ السلام” التابعة للأمم المتحدة، بلا سلام لحفظه ولا أوان لفرضه. وبين الفينة والفينة، تطفو محاولة حل العيوب الحدودية الموروثة من الاستعمار الفرنسي، إلى السطح- عيوب لا يود حزب الله فقدان استثمارها كذرائع لـ”المقاومة”.
ما ذكر آنفاً من المكونات المحتملة والمفيدة لصيغة أكبر كفيلة بإرساء أمن أكثر استدامة للإسرائيليين واللبنانيين على حد سواء ضمن السياق الصحيح، ولكن باستثناء أنها لا تعالج المشكلة الأساسية.
إيران تمسك بزمام “صنبور” العنف في جنوب لبنان وشمال إسرائيل، وتستمر بتمويل وتدريب وتسليح حزب الله. وطالما أنّ إيران غير متحمسة لتغيير نهجها العدواني تجاه إسرائيل، لن تفضي التحركات الصغيرة في لبنان إلى شيء. وما لم يبصر زعماء إسرائيل وجمهورها مبادرة أميركية تجبر إيران على تغيير حساباتها، من غير المرجح أن يأخذوا كلام واشنطن على محمل الجد ويصدقوا أنّ جبهتهم الشمالية خالية من الخطر.
وهكذا، عوضاً عن أن يستقطب إنهاء الصراع في غزة، الاستقرار على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية، تسود في الواقع أكثر فترات عدم اليقين حدة، حيث يزين الإسرائيليون إيجابيات وسلبيات محاولتهم حسم الوضع في الشمال. والواقع أنّ الأطراف الخارجية لم تدرك بما يكفي تأثير صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما تسببت به من انعدام ثقة عميق في استراتيجيات الأمن الوطني السابقة.
وعلى الرغم من أن الإسرائيليين لم يضعوا استراتيجية بديلة، لن يركنوا للعودة بشكل سلبي إلى الوضع السائد قبل أكتوبر/تشرين الأول ــ سواء في غزة أو على طول حدودهم الشمالية ــ لمجرد أن الأميركيين والأوروبيين والعرب وسواهم يجدون ذلك أكثر ملاءمة من البدائل الأخرى.
كما أن إسرائيل تواجه بالطبع مأزقاً بسبب الدروس الواضحة من حرب 2006. فالإسرائيليون لا يستطيعون تدمير حزب الله. واستهداف المدنيين والبنية الأساسية اللبنانية ليس أمراً عنيفاً فحسب، بل غير مجدٍ أيضاً، لأنه غير كفيل بتغيير سلوك إيران أو حزب الله. كما أنّ تراكم الأسلحة المتطورة على جانبي الحدود كفيل برفع تكاليف أي حرب جديدة بشكل يجبر أي زعيم عقلاني على التوقف. ما هو أساسي هو أن تقدم الولايات المتحدة مساراً بديلاً ومقنعاً للخروج من نمط هذا الصراع اللامتناهي.
وهذا يعني تطوير استراتيجية كفيلة بتغيير حسابات الزعماء الإيرانيين. وهي مهمة صعبة ومراوغة في أفضل الحالات. ذلك أنّ خوض عام الانتخابات ووجود رئيس عاجز لا يتيحان تبني سياسات خارجية مبتكرة تتطلب تقبل بعض المخاطر واكتساب الدعم من كلا الحزبين السياسيين الرئيسيين. ومن هذا المنطلق، خطر الحرب حقيقي للغايةـ ولكن ليس اليوم. لحظة الحقيقة ستدق في حال وعندما تصل حملة غزة إلى النهاية. ويجدر بالاستراتيجيين الأميركيين التركيز على تغيير السلوك الإيراني مسبقاً في حال أرادوا صياغة عملية صنع القرار الإسرائيلي الخاص بالمرحلة المقبلة.
مواضيع ذات صلة :
برّي يفاوض.. أين المعارضون؟! | في لبنان ما يستحق الحياة | هولندا تتوعّد بإلقاء القبض على نتنياهو |