المراوغة الإيرانية والحرب الباردة
كتب Charles Chartouni لـ“This is Beirut”:
تشتهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتمادها سياسة المراوغة من جملة تكتيكاتها التي لا تنضب.. وتبنى هذه السياسة على أساليب متعددة تتضمن المحاكاة والإزدواجية في الخطاب والتزوير الصريح. وتصعب هذه الأساليب على المراقبين تحديد الدوافع الحقيقية وراء المواقف الإيرانية وتزيد أجنداتها المعقدة غموضاً.
ولكن كيف يمكن تفسير هذا القدر من المراوغة؟
الاستراتيجية الإيرانية تخضع لقيود “التقية” وحالة انعدام الأمن الشامل، خصوصاً وأن النظام الإسلامي لم يتمكن من تخطي أزمة الشرعية بعد 45 عاماً من الخطاب الثوري والقمع الخانق. وتغذي الديناميكيات المتداخلة لعدم الاستقرار الداخلي وعسكرة الأمن والسياسات الإمبريالية بشكل أساسي التوافق على صراعات الحرب الباردة الجديدة.. وهي صراعات حفزها النظام الإيراني والأنظمة المشابهة.
وتجمع بين هذه الأنظمة سمات مشتركة. وتتجسد هذه السمات في التحالف الشمولي الصاعد الذي يضم الصين وروسيا وشركاءها الأصغر الذين يخضعون للتجنيد بشكل غير منتظم بين الدول المارقة (كوريا الشمالية وفنزويلا ونيكاراغوا وغيرها) والديمقراطيات غير الليبرالية (تركيا الإسلامية) التي تعاني من أزمة شرعية نتيجة التحرير التدريجي وتعزيز منصات المجتمع المدني ونشر التطلعات الديمقراطية. وتجتمع هذه الدكتاتوريات حول مجموعة من القواعد المشتركة: القمع الداخلي وتفكيك المؤسسات الديمقراطية وتزوير الانتخابات واستثمار السياسات الدولية والإقليمية في زعزعة الاستقرار وعسكرة القضايا الأمنية ورفض التحكيمات الدبلوماسية.
ومع ذلك، تعاني هذه الأنظمة من نقطة ضعف تتقاطع عندها هشاشة بنيتها السياسية ومغامراتها الإمبريالية، ونواقصها الاقتصادية، وتهالك أسس نظامها غير الليبرالي. أضف إلى ذلك أنّ سردياتها مثقلة بالشوائب والعيوب وتفتقر لأي معنى، والحال سيان بالنسبة لسياسات زعزعة الاستقرار التي تنتهجها والتي تتقلب وتفقد فعاليتها. كما أنها تعاني من خلل في موازين القوى الدولية وتعجز عن دعم المحاولات المبذولة لفرض القوة (كما في أوكرانيا وغزة وجنوب لبنان).
لقد انضم محمود أحمدي نجاد في الماضي إلى هوغو تشافيز في مشروع إعادة تدوير بقايا الحرب الباردة القديمة، وإرساء نظام دولي مضاد يضم الأراضي السياسية المهجورة ويبني على الجريمة المنظمة والخداع الإيديولوجي. لكن لم يتبق من المشروع سوى الهراء الإيديولوجي والقمع السياسي العنيف والتنظيم الشمولي في البلدين. وهناك، سحقت المعارضة بكل وحشية وترسخت الجريمة المنظمة وسيطرت سياسياً وارتبطت ر بنظام سياسي مضاد ناشئ غير قادر على التشكل.
وبالتوازي مع تعقيد المعادلة العسكرية في أوكرانيا، استمر التعاون العسكري بين إيران وروسيا، بتقويض فرص التعاون السياسي مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشكل يسمح بحل المأزق التراكمي لحرب غزة وتداعياتها.
ويؤدي مثل هذا المسار السياسي بحكم التعريف إلى التدمير الذاتي، لأن أعمدته عبارة عن أضداد لا يمكن أن تجتمع ولا تنفع إلا في المماطلة والتأجيل بانتظار اكتمال مسار التسلح النووي العسكري.
وفي ظل المماطلة، تواظب روسيا وإيران على استثمار الإستراتيجية المشتركة: ترسيخ سياسات الإمبريالية وخنق المعارضة الداخلية، وزعزعة الاستقرار بشكل انتقائي حسب ما تقتضيه المصلحة. وفي هذا السياق، لا حاجة فعلاً لإيجاد حلول لحرب غزة، أو لوضع سوريا على طريق التسوية السياسية وإعادة الإعمار عن طريق التفاوض، أو الإيذان للبنان بإصلاح الدولة المقوضة عمدًا بأسس الاستراتيجية المذكورة أعلاه.
وفي السياق نفسه، يستمر يحيى السنوار بممارسة العرقلة، مستلهماً من سياسة المماطلة الأزلية للنظام الإيراني. وهكذا، يُربط نجاح الهدنة في نهاية المطاف بتحرير الرهائن دون قيد أو شرط، وبوقف الأنشطة الخارجية التي تقودها إيران في غزة ولبنان وسوريا، وبتدويل حكم قطاع غزة وإعادة تأهيل السيادة اللبنانية وإنفاذ القانون الدولي في جنوب لبنان ومنطقة البقاع وشمال شرق سوريا.
لكن العودة إلى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أشبه بتناقض سياسي لا يمكن أن يخدم كمنصة للدبلوماسية. وطالما أن النظام الإيراني يمسك بمفاصل السياسة الفلسطينية، لن يسجل أي خرق دبلوماسي. فالدبلوماسية الإيرانية محكومة بالقيود الإيديولوجية وبالأهداف الإمبريالية والمصالح الخاصة لتكتل ديني عسكري لا يبالي إلا بالبقاء وبحماية قدرته على المناورة وعلى المناطق التي يهيمن عليها.
المعادلة نفسها تنطبق على حالة لبنان. فمن يصدق أن تفكيك الدولة اللبنانية وليد الصدفة؟ هذا التدمير الممنهج هو شرارة التخريب السياسي الرئيسية في الشرق الأوسط. فالشروط التي وضعها حزب الله مناقضة للسيادة اللبنانية، وللدولة الفعلية ولقدرة لبنان على التفاوض بشكل مستقل على شروط الهدنة القائمة على تطبيق القرارات الدولية (رقم 1949، 1701، 1559، 1680)، ونزع السلاح من الحدود وحل التشكيلات العسكرية غير القانونية، سواء كانت لبنانية (حزب الله وحلفاؤه) أو فلسطينية (حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية ومنافسوها) وأي منظمات إرهابية أخرى. وتبني إيران وشركاؤها سياساتها على زعزعة الاستقرار والتعرج الدبلوماسي. وبغياب المسار الثابت لفك الارتباط السياسي، لا تعدو المناورات الدبلوماسية كونها أكثر خدعة.
فماذا ننتظر بعد؟ لقد بلغنا نقطة تحول يتعين فيها على الدبلوماسية وضع حد للتصريحات الفارغة والتوصل لنتائج ملموسة فيما يتعلق بالهدنة وبتبادل الأسرى مقابل الرهائن ومستقبل الحكم في غزة، واحتمالات التوصل إلى اتفاق سلام، وتدويل القضايا الأمنية على الحدود اللبنانية والسورية مع إسرائيل. وإلا فالساحة مفتوحة أمام حروب كبرى واصطفافات جيوسياسية جديدة وتغير في موازين القوى.
مواضيع ذات صلة :
منافسة “تسلا” الصينية تشارك إحدى عمالقة التكنولوجيا في صناعة سيارات ذاتية القيادة | أين لبنان من الحرب الباردة؟ |