صور وبعلبك: الحجر.. إن حكى!
ترجمة “هنا لبنان”
كتبت Bélinda Ibrahim لـ”Ici Beyrouth“:
جوهر التراث اللبناني بخطر وهذا ما يظهر جليًّا في صور وبعلبك، حيث بات التهديد وجودياً في ظل الهجمات المتواصلة. وبالتوازي، صمت مطبق في أروقة السلطات اللبنانية. فهل تنهار كنوز التاريخ أم يسجل تحرك طارئ لنجدتها؟
في صور وبعلبك، القنابل تزلزل الأرض وتهدد تراثًا ثقافيًا حفر مكانه بجدارة على قائمة التراث العالمي لليونيسكو. في بعلبك، ينذر الإنذار بالإخلاء بعواقب وخيمة ويصعب التنبؤ بها. أما دورات العنف فبعيدة عن أن تتوقف، ومخاوف جدية بعد قرار وزير الثقافة اللبناني إزالة شعار “الدرع الأزرق” في نوفمبر 2023. وبعد إضراب الاثنين، لا شيء. وعلى الرغم من خطورة الوضع والأضرار التي لوحظت بالفعل، يستمر وزير الثقافة بالصمت بشكل لافت.. الأمر الذي يطرح علامات استفهام حول الإجراءات التي ينوي اتخاذها لحماية هذه الثروات؟
أما صور فعابرة للزمن.. هي التي أبصرت النور منذ 5000 عام تقريباً، تشكل مركزاً للتاريخ الذي امتد عبر العصور ومهد الحضارة الفينيقية. عرفت المدينة ذروتها في القرن العاشر قبل الميلاد واتسعت مستعمراتها حتى قرطاج. وغيّر الإسكندر الأكبر جغرافيّتها للأبد عام 332 قبل الميلاد حيث ربطها بالقارة خلال حصار ملحمي. ومن ثم، طبعت روما بصماتها الأثرية التي لا تزال صامدة حتى اليوم في بقايا ميدان سباق الخيل وحمامات المياه الحرارية. وبعد خضوعها للسيطرة الإسلامية عام 636، شكلت محوراً رئيسياً في الحروب الصليبية قبل أن يدمّرها المماليك عام 1291. ولم تعرف نهضتها حتى نهاية القرن الثامن عشر. لكن هذه الثروة التاريخية المتراكمة، المصنّفة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1984، فريسة للصواريخ التي تنهال من كل حدب وصوب.
مدينة جريحة وذاكرة بخطر
أمر الجيش الإسرائيلي في 27 تشرين الأول، سكان صور البالغ عددهم 40 ألف نسمة بالمغادرة نحو الشمال، فتحوّلت المدينة إلى مدينة أشباح. وتركزت التفجيرات على وسط المدينة والمناطق السكنية، على مقربة من الكنوز الأثرية.
ووفقاً لمصادر معنية بالدفاع عن التراث، تمحور”الإنذار الأول للجيش الإسرائيلي حول حي الرمل الذي يضم ما يعرف بشارع “الحمراء” في مدينة صور. وربط هذا الشارع موقع البص بالمدينة خلال العصرين الروماني والبيزنطي. ويعتبر كلا الموقعين، بما في ذلك هذا الشارع، جزءاً من التراث العالمي نظراً لما يحتويه من بقايا أثرية، بعضها معروف بالفعل، مثل الطريق الروماني والقناة والكنيسة البيزنطية وموقع حيرام. خلال العصرين الروماني والبيزنطي، شكل موقع البص والمدينة جزءاً من منطقة حضرية واحدة ولا تزال بقايا القناة موجودة. وعلى الرغم من المواقع المحددة في إنذار الإخلاء، استهدفت الغارات الإسرائيلية أيضًا الواجهة البحرية على طول الكورنيش، مما أثر على المباني التاريخية في مدينة صور القديمة. وحتى الساعة، يصعب تحديد حجم الأضرار بدقة على الرغم من وجود كاتدرائية من القرون الوسطى بالقرب من خط الضربات الأخيرة، والآتي أعظم!
وتأسف المصادر لوقوع مركز الموقع الحضري بدرره المعمارية الرومانية من الباليسترا، والحمامات الحرارية والأعمدة الرمزية ضمن نطاق النيران والغارات الجوية. وتؤكد على أن “الضرر لم يوفر موقع البص الأثري، الذي يضم ميدان سباق الخيل الروماني المهيب ومقبرة قديمة واسعة. وقد تم بالفعل الإبلاغ عن دمار هائل في المركز التاريخي ومنطقة الرمل المجاورة للمواقع الأثرية، كما تعرضت المباني القديمة لأضرار هيكلية مثيرة للقلق، عدا عن أن القرب بين الآثار والمناطق السكنية الحديثة يعرض هذه الكنوز لأضرار جسيمة.”
ولا شك بأن كل انفجار يزيد من هشاشة الهياكل التي تعود لقرون خلت والتي تضررت بالفعل نتيجة المخاطر الطبيعية والنقص الصارخ في الصيانة بسبب الأزمات المتكررة. وحيث يتردد صدى الاهتزازات في الأعماق، يتسبب بأضرار ربما لن تظهر إلا بعد فوات الأوان.
بعلبك، جوهرة تحت الحصار
والحال سيان بالنسبة لبعلبك حيث لم يفلت ذلك الموقع الأثري الرئيسي من التهديد. وتسبب القصف الإسرائيلي الاثنين بتدمير جدارين أثريين ضمن المدينة التاريخية، أحدهما يعود تاريخه للانتداب الفرنسي ويعرف باسم غورو والآخر من العصر العثماني. لكن الموقع نفسه لم يتأثر، كما أكد لنا بشير خضر، محافظ بعلبك الهرمل.
وتقع الواجهة على بعد مرمى حجر من أفضل المعابد الرومانية المحفوظة في العالم، والمدرجة أيضًا ضمن قائمة التراث العالمي. وفي الوقت الحالي، يبدو أن أعجوبة سمحت للموقع الرئيسي بالبقاء سليمًا، لكن تداعيات هذه الغارات في المنطقة المجاورة مباشرة تنذر بكثير من العواقب.
أعمدة الدخان الأسود السميكة المتصاعدة قد تؤثر في نهاية المطاف على الحجارة القديمة. وقد تضعف الصدمات المتكررة الهياكل بشكل خفي. فإلى متى ستصمد هذه العجائب المعمارية بوجه العنف؟
واجب الحفاظ على الإرث مهما كان الثمن
في دوامة المأساة الإنسانية التي يعيشها لبنان وتساقط الأرواح، قد يبادل البعض محاولة إنقاذ الحجارة بالملامة.. ولكن هل يعني ذلك تناسي هذه الآثار التي لا تقدر بثمن؟ وهل يعني ذلك الوقوف بصمت أمام مجزرة تطال شاهداً عريقاً يعبق بسكونه بذاكرتنا ويروي تاريخنا؟
تحكي هذه الآثار التي قاومت الحروب والاحتلالات والزلازل، حكاية شعب عظيم وصامد. حراس الذاكرة هؤلاء ينقلون دروس الماضي للأجيال القادمة. أما الاستسلام لتدمير هذه الآثار فمرادف لتجريد لبنان من هويته.
اليوم نخوض سباقاً مع الزمن لإنقاذ ما أمكن. ولكن بمواجهة آلة الحرب، لا تكفي نداءات علماء الآثار والمدافعين عن التراث. وبالمقابل، يثير إهمال السلطات اللبنانية (التي يجب أن تسارع لطلب العون من المجتمع الدولي بمواجهة وضع غير مسبوق) القلق بنفس القدر.
لن يرحم التاريخ كل من صمت وتقاعس أمام هذا التدمير، ولا بد من التحرك فورا واتخاذ تدابير وقائية، بغياب أي آفاق لوقف إطلاق النار.
كلما غربت الشمس، تذوي في جسد لبنان قطعة من روح الأرز..بصورة البشر وبذاكرة الحجر.. ذلك الحجر الذي تناغم مع عظمة الحضارات الماضية والذي يكاد يتفتت في هوة الخراب.. فلا يبقى من الماضي سوى الأطلال العاتبة وحكاية ضائعة عن العز والعظمة!
مواضيع ذات صلة :
غارات إسرائيلية وصواريخ من لبنان نحو الجليل: “الوضع سيئ جداً ونزوح كبير من بعلبك” | الغارات تُجبر 70% من سكان بعلبك على النزوح! | رغم الغارات.. مستشفى بعلبك على أتمّ الجهوزية! |