بعلبك: بزوغ فجر لبنان المثالي

ترجمة هنا لبنان 18 تشرين الثانى, 2024

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Alain E. Andrea لـ”Ici Beyrouth“:

فيما يغرق لبنان في دوامة من العنف والفوضى، نحن مدعوون للحفاظ على إرث المدن المهددة وتحديداً بعلبك.. المهد الحقيقي للثقافة حيث بزغ فجر مهرجانات بعلبك وعكس صورة لبنان المثالي ورمز المصالحة من خلال الفن. الأمر الذي نكاد نفتقر إليه كثيراً اليوم. هذا المقال جزء من سلسلة تعيد اكتشاف درب المهرجانات التي تركت بصمة لا تمحى.

الشتاء حل باكراً هذا العام وصقيع الرياح أعاد إشعال جمر الحرب. وتحت أكوام الرماد، يرقد السلام وقد تعلق بالحياة بخيط رفيع. السيول تتساقط بثقل وتمتزج بالنار والدم ليلطخ رداء الإنسانية بلون الخزي. الغيم يحمل الموت، وقطرات المطر تصطدم بأرض قاحلة، وتتسرب إلى أخاديدها الكئيبة لتوقظ أولئك الذين رقدوا بسلام. فتفتح العيون على الرعب بكل تجلياته.

نظرة ذهول تعتري وجه عاصي ومنصور الرحباني وهما ينظران لأعمدة بعلبك وإرثها الذي يعود لألف عام.. تلك الأعمدة التي شهدت ذات يوم على سطوع نجم المدينة والتي تهتز الأرض اليوم تحت أساساتها. مدينة الشمس محاصرة بالعنف، وذكرى معابدها مهددة بالتلاشي طي النسيان. هي ليست مجرد حجارة.. بعلبك هي الذاكرة الحية لبلد التناقضات، الذي فتح الباب على مصراعيه لأعظم فناني العالم. في هذا المقال، عودة إلى جذور مهرجانات بعلبك، والمراحل الأساسية من تاريخها قبل ظهور ما يسمى بالموسيقى اللبنانية الجديدة، التي صاغها الأخوان الرحباني، مع فيروز، على طريقتهما الخاصة، خلال عدة عقود.

تحت قبة المشرق

الزمان: آذار/مارس 1955. المكان: ليدو، باريس. أحد أكثر المشاريع الثقافية طموحاً في الشرق الأوسط، ثمرة لقاء مرتجل بين جان مارشا، عضو Comédie-Française، وطوني قزي، إمبريساريو لبناني، وفرانسيس سافيل، رسام ومخرج. ومن بيت شعر عن الشرق المهجور من رائعة Bérénice لجان راسين، لمعت آثار بعلبك القديمة في مخيلة الرجال الثلاثة. وجدت أخيراً! بالنسبة لصلاح ستيتيه، تلك كانت الشرارة الأولى لما سيصبح قريبًا مهرجانات بعلبك. وبعد خمسة أشهر، رست فرقة جان مارشا في مدينة الشمس، بعد محطتين في بيروت عامي 1947 و1952.

في آب 1955، الرياح المتوسطية تسللت بدفء وخفة بين أعمدة معبد باخوس القديمة، فتناثرت حبيبات الذهب التي غطت الحجر، وتطايرت لآلئ من نور تحت أنظار حشد المتجمعين لافتتاح المهرجان. في هذا المكان الأسطوري، الذي يغمره ضوء الغسق الذهبي، انطلقت الفرقة الفرنسية في عرض مسرحيةPolyeucte لبيير كورنيي. نجاح العرض تجاوز كل التوقعات، وترك أثراً عميقاً على الجمهور الناطق بالفرنسية. الجمهور لم يتأثر بالتضحية البطولية لبطل الرواية فحسب، ولكن أيضًا بعظمة المكان. وسرعان ما أثار هذا الحدث اهتمام الصحافة الفرنسية، التي أشادت بجرأة هذا المهرجان الفريد من نوعه، الذي يعرض الثقافة الغربية تحت سماء المشرق.

نصر سياسي

في شباط 1956، شُكلت بطلب من كميل شمعون (رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك)، لجنة لإستدامة هذا المهرجان الذي أصبح رمزاً على الفور. “أنشأ الرئيس شمعون مهرجانات بعلبك التي أرادها بعد محاولات فاشلة. فقرر أن يؤسس مهرجاناً نهائياً لكل صيف”، حسب ما روى عازف البيانو اللبناني الفرنسي الراحل هنري غريب في مراسلته مع مؤلف هذه الأبيات. وحسب قوله، عهد شمعون في البداية لنادية كتانة بمسؤولية برمجة موسم 1956، ولكن مع مرور الوقت دون إحراز أي تقدم، أعفاها من المهمة وعهد بها إلى إيمي كتانة، التي تولت مسؤولية العمل لسنوات، وقدمت مهرجانات على أعلى مستوى من الجودة”، حسب ما تابع الفنان المعروف بعلاقته الوثيقة مع آل شمعون.

وعلى الرغم من العقبات التقنية والمالية، آتى البرنامج ثماره بفضل مساعدة السفارات والجمعية الفرنسية (l’Association française d’action artistique). ووافق جان كوكتو، الذي كان يتصدر العناوين الرئيسية، على نقل مسرحيته “الآلة الجهنمية” (La Machine infernale ) إلى مسرح آثار بعلبك، على الرغم من أن التوترات السياسية المتزايدة، ولا سيما أزمة قناة السويس، تركت بعض الشك. ونقرأ في صفحة من مذكرات الكاتب المسرحي الفرنسي المؤرخة في 12 مايو 1956، كيف أن التفاصيل جميلة ولو أن المشهد يدور في لبنان بين الأنقاض. كما يسرد عن محطة في شهر آب. المهرجانات افتتحت في 28 تموز وسط ضجة كبيرة، على الرغم من الاضطرابات. وبعد ثلاثة أيام، بسط طائر النار لإيغور سترافينسكي جناحيه للمرة الأولى في لبنان، وحلّق على درجات معبد باخوس. ودبت الحياة على أنغام أوركسترا هامبورغ إن دي آر، تحت إشراف ليون بارزين وعزف هنري غريب على البيانو، وسنتطرّق لتفاصيل هذا الحفل في مقال مقبل. وغلف العرض المكان بالألحان وبوهج التناغمات.

الصحافة المحلية رحبت بالعرض ووصفته بـ”الانتصار السياسي الكبير” للبنان، وبـ”الصفعة لعبد الناصر، ولكارهي الفرنكوفونية والأجانب”، حسب كوكتو. وبعد أيام قليلة، منح الرئيس كميل شمعون وسام الاستحقاق إلى إيمي كتانة، وجورج يوخوم قائد أوركسترا هامبورغ السيمفوني، وإلى فيلهلم كيمبف عازف البيانو الألماني وليون بارزين.

عهد الرحابنة

أما الفولكلور اللبناني، الذي ظل جزءاً لا يتجزأ من مهرجان بعلبك لسنوات، فلم يدمج حتى عام 1957، توخياً لإعداد دراسة معمقة وبرنامج دقيق. ومع جذوره الراسخة في الجبال والقرى اللبنانية، عكس هذا الفن الشعبي جزءًا أساسيًا من هوية لبنان الثقافية، التي تتميز بتنوع غني في التأثيرات الثقافية والفنية. وهكذا أصبح مهرجان بعلبك، بامتياز، مسرحاً لتعزيز وتثمين هذه التعبيرات الفنية، بالتوازي مع الاحتفاء بمخزون الموسيقى الغربية الكبير من خلال دعوة أعظم الفنانين على الساحة الموسيقية العالمية. شعلة هذه الهوية الموسيقية الجديدة سيحملها عمالقة مثل الأخوين الرحباني وفيروز وصباح ووديع الصافي وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين وإيلي الشويري. كل هؤلاء وسواهم بعد سيحملون شعلة ما سيعرف لاحقا بـ”الموسيقى اللبنانية” التي سنكرس لها المقال التالي ضمن هذه السلسلة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us