فرنسا: أزمة غير مسبوقة.. عوامل وحلول

ترجمة هنا لبنان 7 كانون الأول, 2024

ترجمة “هنا لبنان”:

كتب Ali A. Hamadé لـ”Ici Beyrouth“:

يتفاقم الوضع السياسي في فرنسا منذ الأربعاء بعد إسقاط حكومة بارنييه في تصويت لحجب الثقة. وتشهد البلاد أزمة غير مسبوقة منذ أكثر من ستة عقود بعد التصويت الأول منذ عام 1962، الذي أجبر رئيس الوزراء ميشال بارنييه على تقديم إستقالته.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ندد مساء اليوم التالي بالفوضى التي أحدثتها قوى المعارضة. وأكد في خطاب حازم من الإليزيه، أنه سيعين في الأيام المقبلة رئيساً للوزراء يجمع مختلف القوى السياسية المتعاونة. ووفقاً للمعلومات التي حصلت عليها قنوات TF1-LCI، التعيين مرتقب يوم الاثنين على أقرب تقدير، بعيد الإنتهاء من المشاورات السياسية المعتادة.

الأحداث الأخيرة تطرح الكثير من التساؤلات حول العوامل التي أوصلت فرنسا إلى هذه النقطة والمستقبل السياسي للبلاد في مواجهة هذا المأزق المؤسسي.

ويمكن ربط الأزمة الحالية في فرنسا في الأساس بعاملين رئيسيين: الأول، حل مجلس النواب في حزيران الماضي من قبل الرئيس ماكرون. وقد أسيء فهم هذا القرار على نطاق واسع كما اعتبره العديد من المراقبين غير مبرر. وأدى ذلك لانتخاب جمعية وطنية تتسم باستقطاب سياسي قوي، وشكلت جبهة التجمع الوطني والجبهة الشعبية الجديدة والمعسكر الرئاسي أقطاباً متعارضة.

هذا الاستقطاب الثلاثي دفع باتجاه انسداد مؤسسي، حيث لم تحصل أي مجموعة على أغلبية واضحة، مما ربط بقاء أي حكومة بالإفلات من حجب الثقة من قبل القوى السياسية الحاضرة.

وهكذا، استمر ائتلاف اليسار واليسار المتطرف، الذي يعتبر نفسه الفائز في الانتخابات، بممارسة الضغوط لفرض الرقابة على أي حكومة لا تأتي من صفه. ومنذ تعيين بارنييه، دعت مارين لوبان، رئيسة الجبهة الوطنية، لاتباع نهج أكثر اعتدالاً، وعدم اللجوء إلى الرقابة بشكل مستمر.

أما العامل الثاني فيرتبط بالأخطاء التحليلية التي ارتكبها بارنييه. فعلى الرغم من خبرته السياسية، فشل هذا الأخير في توقع الدور المركزي للتجمع الوطني في هذه الديناميكية. وكان مدركاً لهشاشة موقعه ولدور الجبهة الوطنية الحاسم. لكنه أصر حتى اللحظة الأخيرة، على افتراض أنّ مارين لوبان وحلفائها يمارسون الخداع. وكان رئيس الوزراء يأمل منذ البداية ألا تتوافق مطالب اليسار مع تلك الخاصة بالجمهوريين، لتصبح الجبهة الوطنية شريكًا أكثر مرونة. ومع ذلك، سرعان ما ظهرت محدودية هذه الاستراتيجية. وعندما اقترح بارنييه تقديم تنازلات، مثل مراجعة سياسة سداد تكاليف الأدوية، فرفعت مارين لوبان عتبة مطالبها، ودفعت باتجاه المزيد من التنازلات بشأن قضايا الميزانية الحساسة. في تلك اللحظة، أدرك رئيس الحكومة أنّ الجبهة الوطنية لم تكن تسعى حقًا إلى التوصل إلى اتفاق، بل إلى إضعاف مجلس الوزراء بشكل أكبر والضغط باتجاه استقالة إيمانويل ماكرون في نهاية المطاف.

ماذا عن الحلول؟

ما هو السبيل للخروج من أزمة مؤسسية وسياسية بهذا الحجم؟ تثير فكرة التحالف السياسي الذي يتجاوز الانقسامات التقليدية الانقسام على ما يبدو، بين أعضاء الأغلبية الرئاسية السابقة. وعلى الرغم من أنّ البعض ينظر إلى مثل هذا الائتلاف، بما في ذلك اليسار الاشتراكي واليمين الجمهوري، كحلّ ممكن، يبقى الدعم والمقترحات متناثرة. وداخل الجمعية الوطنية، تعمل شخصيات مثل فرانسوا بايرو خلف الكواليس للتقرب من الاشتراكيين من خلال استخدام قضية معاشات التقاعد كوسيلة ضغط على وجه الخصوص. لكن محاولة التقارب هذه لا تستهوي بعض أعضاء الأغلبية السابقة، الذين لا يرون في بايرو زعيماً قادراً على تجسيد بداية جديدة. لكن هذه الفرضية لا تزال مطروحة خصوصاً وأنّ ماكرون، استقبل حسب قناة BFMTV، بايرو على مائدة الغداء الخميس في قصر الإليزيه. ويرى منتقدون أنّ تعيينه لن يؤدي إلا إلى تفاقم التوترات الداخلية، من خلال تعزيز الانتقادات الموجهة إلى الإدارة الرئاسية الحالية وتأجيج الشائعات حول استقالة محتملة لماكرون.

وفي سياق الحلول المحتملة، يبدو أنّ التعيين السريع لرئيس الوزراء من اليمين أو الوسط هو الخيار الأفضل. ومن شأن هذا الحل أن يحقق ميزة لإيمانويل ماكرون على مستوى الحفاظ على استمرارية معينة في سياسته، دون المخاطرة بالقطيعة مع إصلاحاته السابقة. لكن هذا لن يضمن الاستقرار الدائم، كما يتضح من وضع بارنييه. وفي التداول أسماء عدة لخلافة الأخير، على غرار وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو. ونظراً لخلفيته السياسية قد يتمكن هذا الأخير من تخفيف حدة التوتر مع التجمع الوطني. علاوة على ذلك، ووفقًا للمعلومات التي كشفت عنها قنوات TF1-LCI، أراد ماكرون أن يستشهد بليكورنو كرئيس للوزراء في خطابه، قبل أن يتراجع بفعل احتجاجات معسكره. وهناك مرشحون محتملون آخرون أيضاً، مثل فرانسوا بايرو أو فرانسوا باروان. ويتمتع كل منهم بالقدرة على الجمع بين القوى السياسية، رغم أن هذه الخيارات بعيدة كل البعد عن الإجماع.

وتكمن صعوبة تعيين رئيس وزراء يميني في المخاطر السياسية التي قد تنتج عنه، خصوصاً الصدام الجديد مع قوى المعارضة.

ويتلخص حل آخر في اختيار رئيس وزراء من اليسار، كجزء من ميثاق عدم الرقابة في القوس الجمهوري من اليمين الجمهوري إلى اليسار الاشتراكي. ويمثل هذا الخيار، الذي يدعمه بعض الاشتراكيين، فرصة للحد من التوترات من خلال توسيع قاعدة الدعم الحكومية. ومع ذلك، يواجه معارضة من حزب فرنسا الأبية الذي يرفض أي فكرة عن مثل هذا التحالف. الأمر الذي يتطلب انفصالًا صعبًا، على الرغم من التوترات المتزايدة، بين اليسار الديمقراطي الاشتراكي واليسار المتطرف، المنتخبين على أساس البرنامج نفسه. وعدا عن ذلك، على الرغم من أن بعض الوسطيين مثل غابرييل أتال قد انفتحوا على هذا الاحتمال، قد يتعرقل تنفيذ هذا الاتفاق بسبب الخلافات حول القضايا الرئيسية، مثل المعاشات التقاعدية أو قوانين الهجرة.

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يساعد في كسر الجمود، يتطلب تنازلات كبيرة بين القوى السياسية المختلفة، وهذا ما يبقى صعباً. وفي كل الأحوال، يتضح على نحو متزايد أنّ المعسكر الرئاسي واليمين الجمهوري سيحتاجان إلى حشد اليسار الديمقراطي الاجتماعي لتتمكن أي حكومة من البقاء. لكن من المدهش أن نرى أن الرئيس هاجم الحزب الاشتراكي بشكل مباشر من خلال إدانته لقرار الرقابة.

وفي الوقت عينه، تبقى حكومة التكنوقراط مطروحة على الرغم من استبعادها. وينظر كثر إلى مثل هذا الحل في السياق الحالي باعتباره اندفاعاً متهوراً، مع تضاؤل ​​فرص استعادة الاستقرار السياسي.

وتجمع الجهات السياسية الفاعلة على ما يبدو على نقطة واحدة: إنهاء الأزمة لا يقتصر على مجرد إدارة فنية بسيطة للشؤون العامة، بل يتطلب إجماعاً سياسياً حقيقياً يتخطى الانقسامات التقليدية.

وأخيراً، تبرز استقالة إيمانويل ماكرون من ضمن السيناريوهات التي تهدف لحل المأزق. وعلى الرغم من انها شبه مستحيلة، تبقى في التداول كخيار مطروح ولو أنه مثير للجدل.

وتغذي هذه الفرضية، التي يتبناها اليمين ضمناً واليسار صراحة النقاش المتزايد حول الشرعية السياسية لرئيس الدولة.

ومن خلال إسقاط الحكومة بحجب الثقة، أطلق التجمع الوطني ديناميكية تدعو للتشكيك في الاستقرار المؤسسي. وكانت مارين لوبان قد رأت في مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، أنه في حال أصاب الإخفاق عدد من الحكومات المتعاقبة، قد تبرز مسألة الاستقالة الرئاسية كأحد الحلول المحتملة.

وعلى الرغم من أنّ الجبهة الوطنية لم تدع لاستقالة ماكرون بشكل صريح، أشار نوابها إلى أن الرحيل المبكر للرئيس قد يكون مفيدًا لفرنسا. وتهدف هذه الاستراتيجية لإضعاف السلطة التنفيذية بفعل الضغط المتزايد على عملية تعيين رئيس جديد للحكومة. وبالتوازي، يتم تصوير الانتخابات الرئاسية المبكرة كوسيلة محتملة لإعادة تعريف المشهد السياسي واستعادة شكل من أشكال الاستقرار.. وذلك على أساس أن الإدارة الحالية للرئيس تهدد هذا الاستقرار برأي الحزب. أما المعسكر الرئاسي فيرى في هذا الخطاب انعكاساً لحسابات استراتيجية، خصوصاً في ما يتعلق بالمواعيد النهائية القانونية التي تهدد بعض قادة الجبهة الوطنية. ويوضح هذا النهج المزدوج، بين الضغط المؤسسي والانتهازية السياسية، التوترات المتزايدة في مناخ يتسم بالفعل بعدم اليقين ويسود فيه انعدام الثقة في المؤسسات.

وفي نهاية المطاف، تعيد الأزمة الحالية إحياء سؤال جوهري أثير منذ انتخاب هذه الجمعية المنقسمة: هل أصبحت فرنسا غير قابلة للحكم؟ وأياً كان السيناريو المتصور، يبدو أن كل المحاولات لإنهاء الأزمة تصطدم بحاجز غياب الإجماع وتزيد من الاستقطاب الثلاثي في ​​المشهد السياسي.

وبالتوازي مع عدم الاستقرار السائد، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن إرساء توازن مؤسسي دائم في ظل كل هذا التشرذم؟

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us