“نحن العلويون في سوريا.. في طابور الموت”

كتبت Nidal Ayoub لـ”Ici Beyrouth”:
يستحيل التيقن تماماً مما يحدث في المناطق العلوية في سوريا. وعلى الرغم من تعدد المحاولات، تبقى المعلومات الدقيقة والشهادات الصادقة بعيدة المنال. وبقدر مضاعفتنا الجهود، نصطدم بجدران من الصمت والتحفظ، مع بعض الإشارات التي قد تشير إلى حجم المأساة، لكن التكهنات وحدها لا تكفي..
رن الهاتف أخيرًا. كلمات محملة بالأسى والحزن خرجت من الجهاز. كلمات ثقيلة تماماً كالجثث المكدسة في برادات الموتى في جبلة، حيث تنبعث الروائح الكريهة على طرق اللاذقية أو من القبور الجماعية.
ثم بالكاد تكتب الكلمات حتى يُمسح كل شيء، وكأن يدًا بعيدة تمحوها فورًا، ربما لحماية معلومات ثمينة للغاية، خطيرة للغاية. كم أشقى وأنا أحاول استيعاب تلك المعلومات التي تتبخر بسرعة البرق. شعور مؤلم بوخز مستمر.. يتملكني ويسيطر عليّ، لأنّ الموت يلاحق الأبرياء من جديد. والهدف هذه المرة، “الكفار”.. “الكفار” بالنظام، و”الكفار” بطائفة إسلامية معينة، و”الكفار” بإله دموي، و”الكفار” من أي شكل وأي نوع..
سياق مرعب
أعمال العنف اندلعت في 6 مارس بعد هجوم دامٍ شنّه مؤيدو النظام المخلوع لبشار الأسد ضد قوات الأمن في المنطقة الساحلية في اللاذقية، حيث يتركز المجتمع العلوي الذي تنحدر منه عائلة الأسد. وهي تعدّ الأسوأ منذ وصول التحالف بقيادة الإسلاميين إلى السلطة في 8 ديسمبر.
همسات من عالم الغياب
الساعة 3:23، خيوط الشمس تبشر بفجر قريب. يشاركني بروابط لصفحات على منصة “فيسبوك”، “توثق” المجازر ضد العلويين في سوريا.
بعد سيل من الحجج والرفض والتحفظات، بحجة انقطاع الإنترنت أو نفاد بطارية الهاتف بفعل انقطاع الكهرباء، بينما الدافع الحقيقي هو الخوف الغريزي من الفظائع، تشبث برقم هاتفي وكأنه آخر طوق نجاة. وكتب لي: “شكرًا، شكرًا، لأنك تنقلين مأساتنا، صوتنا، إلى العالم الخارجي!”.
أستشفّ بين ثنايا إحدى الرسائل، أن من يراسلني طبيب. ويكشف ملفه الشخصي على واتساب جزءًا من هويته: إنه علي… علي نفسه الذي كان يتمنع عن الكلام.. يراسلني لساعات طويلة، متناوبًا بين الرسائل المكتوبة والمقاطع الصوتية والصور المروعة وروابط لصفحات ناشطين على فيسبوك.
يُلِحُّ عليّ مرارًا بالتعهد بعدم الكشف عن هويته، علما بأنه لم يبح بها أصلًا، خوفًا من “انتقام دموي”: خطف واغتيالات، وما إلى ذلك. “إنهم يفتشون الهواتف! ما يحدث لا يُعقل. نحن في حالة صدمة. يُقتل أشخاص أبرياء، مدنيون من جميع الأعمار… لقد فقدنا الكثير من أقاربنا وأصدقائنا… في جبلة مجزرة، وفي بانياس… وفي القرى المجاورة.”
هذه المناطق تشهد على تدمير المنازل والحرائق والمجازر وموجات الهروب… يكتب: “تعرضت للهجوم أثناء ملاحقة أنصار النظام السابق. الناس يُقتلون عن قرب، ويتعرضون للإبادة على أساس طائفي.” ثم يضيف بين قوسين: “لأنهم علويون”. أنظر إلى هذه الكلمة محصورة بين تلك “العلامتين” الطباعيتين، وكم أراها تجسد بالدرجة مأساة هذه الطائفة العالقة بين أنياب موت أعمى.
يكرر بإصرار: “الضحايا مدنيون وأطفال ونساء، ومسنّون.” ثم يضيف كأنه يقدم حجة دامغة: “العسكريون الذين كانوا في صفوف جيش النظام السابق استفادوا من ‘تسوية أوضاعهم’ وسلّموا أسلحتهم للنظام الجديد. أما من يسمون بـ’أنصار النظام’، فلا يعلم أحد إن اعتقلتهم السلطات الجديدة بالفعل من قبل.”
ثم يضيف بنبرة أكثر مرارة: “نحن العلويون، أكثر الناس بؤسًا. دفعنا الثمن غاليًا لأن بشار الأسد كان علويًا، مع أنه أحسن معاملة الآخرين بخلاف ما تعامل معنا تماماً!”
“الثابت الوحيد أن من يتعرضون للملاحقة والقتل هم في الغالب من المدنيين. قرى بأكملها، عائلات بأكملها، تُباد… نحن، المدنيون العلويون، عاجزون ونفتقر لأي وسيلة لحماية أنفسنا. نحن غير مسلحين. إنها إبادة جماعية.”
ماذا عن عدد الضحايا؟
“الأرقام غير نهائية حتى الآن. لم يتم إحصاء الجثث بعد. لكن الحديث كثر خلال يومين عن ألفي قتيل، وهو رقم يفوق العدد المعترف به رسميًا بكثير. والآن، لا شك بأنّ العدد قد ارتفع أكثر فأكثر. المشارح تغصّ بالجثث.”
ماذا عن الذين تمكنوا من الفرار؟
“لجأوا إلى قاعدة حميميم، أملاً بحماية الروس. بينما هرب آخرون إلى المدن الأكثر أمانًا، أو لجأوا إلى الأرياف والطبيعة.”
“العملية لم تنتهِ بعد”
يؤكد علي أنّ “العملية لا تزال مستمرة”، خلافًا لما تزعمه السلطات الرسمية. “تلقيت للتوّ معلومات تفيد بارتكاب المجازر في قرية الرحيبيّة في جبلة.” وللتأكيد على فداحة الكارثة، يضيف أنّ المستشفيات في جبلة واللاذقية، وطرطوس غير قادرة على العمل، لأن العديد منها محاصر.
“أرجووووكم، أرجووووكم، دافعوا عن قضيتنا. أرجووووكم، احمونا!” يكتبها بالعربية. صدى صرخته يتردد في أذني. أعتقد أنه أنهى المحادثة… لكنه نداء الإستغاثة لا يزال يصدح، يتوسل أن أنقل “كل ما يحاولون إخفاءه وتزويره وتحريفه. شوارعنا غارقة في الدماء…!”
ينقطع الإنترنت.. ثم يسود صمت مدقع..
تصلني رسالة جديدة: “شوارعنا تحترق! لماذا؟! لطالما عشنا بسلام مع جيراننا وأصدقائنا المسيحيين والسُّنة. كنا نتقاسم طبق المجدّرة نفسه…”
يرسل رمزاً تعبيرياً يبكي بحرقة، وسيلاً من الصور الإضافية.
وأخيرًا، رسالة أخيرة: “ننتظر دورنا في طابور الموت…”
ثم… الغياب التام!
إحساسٌ مرير يتملكني …
التاريخ يعيد نفسه
والألم كم يشبه ما خبرناه في لبنان!
مواضيع ذات صلة :
![]() إغلاق المعابر غير الشرعية لبلدة المشرفة من الجهة السورية! | ![]() مقتل قيادي كبير بتنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق | ![]() لقاء سياسي موسّع في طرابلس.. وبحثٌ في انعكاسات الأحداث في سوريا |