لبنان بين غياب التوافق لمعالجة الأزمات وتنفيذ التفويضات الأمنية الدولية

كتب Charles Chartouni لـ”This Is Beyrouth”:
لبنان لا يزال في “المنطقة الرمادية” في ما يتعلق بعملية السلام… وجوهر المشكلة يكمن في عملية الانتقال نفسها وفي غياب نهج توافقي لمعالجة الأزمات التي تعصف بالبلاد. وبادئ ذي بدء، فشلت الجهات الفاعلة الحالية في الاعتراف بطبيعة العملية الانتقالية وما تحمله من رسائل استراتيجية. وتعاملت مع الأحداث السياسية التي تلت تدمير حزب الله وكأنها نابعة من العدم، وكأنّ الهجوم الإسرائيلي المضاد لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بتداعيات اختلال النظام السياسي.
وفي الأصل، عانى لبنان على مدى أكثر من ستة عقود، من أزمات متأصلة تتعلق بالشرعية الوطنية وانتقاص السيادة وإخضاعه للسياسات الإقليمية التي قوًضت حياته المؤسسية وأضعفت توافقاته. ولطالما عكست الصراعات السياسية خلافات كبيرة في الثقافة السياسية والعجز عن التوافق حول القيم المدنية والسياسية الأساسية وأثرها في الحياة السياسية.
إن التحوّلات الجيوستراتيجية الجذرية التي أحدثها الهجوم الإسرائيلي المضاد هي التي تشكل الديناميكية السياسية الحالية، وتأثيراتها واضحة في الديناميكيات السياسية الإقليمية والمحلية. كما تبشر هزيمة حزب الله وتفكك المنصات العملياتية للاستراتيجية الإمبريالية الإيرانية، المتمثلة في شعار “وحدة الساحات”، بعهد سياسي جديد وتطرح التساؤلات حول أسس النظام السياسي الإقليمي. أمّا الفشل في الاعتراف بالوقائع العسكرية والسياسية الأساسية والغطاء الإيديولوجي المتين والركائز الاستراتيجية المتبقية، فيشرح العجز عن التفاعل مع الديناميكيات الجديدة والتعامل مع تحدياتها.
وبعيدًا عن حقيقة أن السوتيرولوجيا (العقيدة) السياسية لحزب الله تشكل عقبة رئيسية أمام تطبيع الحياة السياسية واحتمال حل النزاع بالتفاوض، يبقى الفاعلون السياسيون مقيدين بالتحيزات الإيديولوجية والأغلال الإمبريالية ونهج الصراعات الصفرية. وبالتالي، يغيب دور الدبلوماسية وتهمّش الوساطات السياسية على هامش إدارة الصراع.
وتنبع نزعة حزب الله التوسعية من جهة، من حالة إنكار مستمرة ومن عجزه عن التعامل مع واقع الهزيمة العسكرية ورفضه القاطع للدبلوماسية بينما يعجز بالكاد عن تحمل تكاليف التعطيل المدمر.
ومن جهة أخرى، لا يزال النظام الإيراني يستخدم لبنان كمنصةٍ للتدمير والتخريب السياسي في المستقبل. وطالما أن المشهد السياسي الشيعي مثقل بأوهام الإمبريالية الإيرانية المنتصرة والتعافي العسكري والتصميم على استعادة الهيمنة السياسية المتهالكة، سيعصى تطبيع المشهد والمزاج السياسيين سواء داخل الطائفة الشيعية أو على المستوى اللبناني.
ومن الصعب بمكان التعامل مع الهذيان الإيديولوجي الذي يزداد سوءًا عندما يرتبط بالأهواء السياسية المهزومة والامتيازات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية المفقودة. وطالما أن الشيعة عاجزين عن التخلي عن أوهامهم والتكيف مع الواقع وضبط سلوكهم، سيواجه لبنان صعوبة في تصحيح أولوياته السياسية والتعامل مع أزماته.
لقد حصلت الانتخابات الرئاسية اللبنانية في أعقاب الديناميكيات العسكرية والسياسية المتجددة، والحال سيان بالنسبة للحكومة الجديدة التي تشكلت بعد ثلاث سنوات من الجمود المدمر واستغلال مؤسسات الدولة من قبل السياسة الشيعية التي حطمت مفهوم الدولة الدستورية والسيادة الإقليمية والمدنية الأساسية. وللأسف، فشلت السلطة التنفيذية الجديدة في استيعاب متطلبات السياق الجديد، والتخلي عن المنظور الإيديولوجي والاستعداد لإجراء تحولات سياسية واستراتيجية جوهرية.
لقد عادت الانقسامات السياسية التقليدية التي طبعت تاريخ لبنان المعاصر لتطفو إلى السطح مع تجدد طرح قضايا السيادة الوطنية وفقدان الاستقلالية السياسية. والسلطة التنفيذية منقسمة إيديولوجيًا وسياسيًا؛ الرئيس جوزاف عون يبدي ترددّا وحسابات رئيس الوزراء نواف سلام تستند إلى سياسات القوة الطائفية (السنية والسنية-الشيعية)، والتحيزات الإيديولوجية وخطة غير متوازنة تقوم على رفض الواقع وتهميش الساحة السياسية المسيحية.
هذا الواقع أبعد ما يكون عن تعزيز سياسة التوافق الديموقراطي ومساعدة لبنان على التغلب على انعدام الاستقرار. كما يصعب الدفاع عن الحيادية التي تدعيها الحكومة حيث إن التوجهات الإيديولوجية والسياسية واضحة في تحالفها مع حزب الله واعترافها بوجوده السياسي والعسكري خارج الحدود وفرض الحماية العسكرية لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين. يضاف إلى ذلك رفض إعادة النظر في قضايا في الدستور ومسألة الفيدرالية وعدالة القوانين الانتخابية ودور السلطة المركزية في تعزيز هيمنة الأوليغارشية في لبنان.
إن استمرار التفويضات المتضاربة في حكومة مختلطة غير مرجح على المدى الطويل. ولا يمكن لعهد جديد تجاهل الضرورات المتعلقة بتحقيق السلام مع إسرائيل وتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التوافقية. فالأوليغارشيات السياسية والحكومة الحالية تقوّض بشكل علني فرص التوصل لمعاهدة سلام مع إسرائيل وتنفيذ الإصلاحات المالية، حيث إن لجميع الأطراف المعنية مصلحة في الفساد المستشري وفي استدامة عدم الاستقرار.
وإلى ضبابية المشهد الداخلي، تضاف تداعيات عدم الاستقرار في سوريا وتصادم السياسات الإقليمية وأثرها في تشكيل الديناميكيات السياسية اللبنانية. وفي المحصّلة، يبقى تنفيذ التفويضات الأمنية الدولية أساسيًا إذا ما أراد لبنان تخطي عواقب تصادم السياسات الإقليمية وعدم الاستقرار وقضايا الحروب الثقافية والديموقراطية التوافقية المعطلة.
مواضيع ذات صلة :
![]() بالفيديو: إزالة لافتة لـ”الحزب” في زحلة | ![]() رسمياً… “الحزب” ينعى عنصريه اللذين استُهدفا في غارة الضاحية | ![]() إطلاق الصواريخ من لبنان.. القوى الأمنية تتحرك لمنع تجدد الحرب الإسرائيلية |