منصور الرحباني… قرنٌ من الإبداع

ترجمة هنا لبنان 21 آذار, 2025

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Alain E. Andrea لـ “Ici Beyrouth“:

شكّل الأَخَوَان الرحباني إلى جانب الأيقونة فيروز، ثلاثيّة موسيقيّة تركت بصمةً خالدةً في تاريخ لبنان والعالم العربي. ومع حلول الذّكرى المئوية لميلاد منصور الرحباني، لا يقتصر الاحتفاء على مسيرة الأخويْن المشتركة فحسب، بل ينسحب على الإرث الفني الذي حمله منصور بعد رحيل عاصي عام 1986، والرّؤية التي حمل مشعل تأثيرها الواسع في الساحة العربية. في السطور التالية، رحلةٌ عبر هذا الإرث الفني العابر للزمن.

لقد كانا اثنين… شخصيتان مستقلتان، مبدعان متكاملان ومثقفان حرّان. ومع ذلك، ما جمعهما كان أكثر بكثير من مجرد الأخوّة، فقد شكّلا معًا كِيانًا فنّيًا واحدًا… صنوان لا ينفصلان: الأخوان الرّحباني. كانا شاعريْن ومفكريْن وموسيقييْن… جمعتهما الرؤية من دون أن يطغى أحدهما على الآخر. الشاعر جسّد المعاني، والموسيقي حوّلها إلى أنغام حية… في حوار مستمرّ بين الكلمة واللحن، تتغذّى فيه الموسيقى من الشعر ويُخلّد الشعر عبر الموسيقى… وبذلك استحال إرثهما الفني مدرسةً قائمة بذاتها.

شكّل الأَخَوَان الرحباني صوتًا لنهضة لبنان، الذي يسعى لتعريف هويته وسط تعقيدات السياسة والتاريخ. واليوم، إذ تحلّ الذكرى المئوية لميلاد منصور (1925-2009)، بعد أن احتفينا بعاصي عام 2023، تأتي المناسبة للتأمّل في الإرث الموسيقي والثقافي للبنان… بلد يختبر باستمرار رحلة إعادة تشكيل الهوية.

التفاعل الموسيقي العابر للثقافات

أبصر الأَخَوَان الرحباني النور في بيتٍ متواضعٍ في أنطلياس، ولم يرِثا الموسيقى من عائلتهما، بل اكتسباها بكدّ وجهد. تأثّرا بالموسيقى الكَنَسِيَّة الأرثوذكسيّة والروميّة وبالترانيم الليتورجية المارونية، لكن ما وسّع آفاقهما بالفعل ارتبط بتعرّفهما إلى الموسيقى الغربية التي فتحت لهما آفاقًا بلا حدود، وذلك في زمن طبعته التغيّرات. ففي الماضي، تفاعلت الموسيقى المشرقية في أعقاب انهيار الدولة العثمانية وبدايات الانتداب الفرنسي، مع النظام الهارموني الأوروبي، الذي رُوّج له كنموذجٍ للحداثة. ومثّل افتتاح دار الموسيقى في عام 1910، وهو ما سيصبح المعهد الوطني للموسيقى على يد وديع صبرا (1876-1952)، بدايةً لتغريب التعليم الموسيقي والممارسات التقليدية في لبنان، كما تشير المؤرّخة اللبنانية ديانا عباني، في دراسة نشرت عام 2019.

واغتنى الأَخَوَان الرحباني بتدريبٍ أكاديمي في التناغم الموسيقي والهارموني والتأليف على يد برتراند روبيلار، أحد مؤسّسي أكاديمية الفنون الجميلة في لبنان (الألبا). وشكّل هذا التعليم ركيزةً مكّنتهما لاحقًا من تأسيس نهجٍ موسيقيّ جديد، يتّسم بتعدّد الأصوات (Polyphony)، وهو مسارٌ استهلّه توفيق سكر لكنّه لم يكتمل. أمّا نقطة التحوّل الكبرى فكانت عند لقاء فيروز… آنذاك مغنيةً في كورال الإذاعة اللبنانية. معًا، شكّل الثلاثي الجبّار صوتًا جديدًا تجاوز الطابع الموسيقي السائد حينها، وعبّر عن لبنان بتركيبته الثقافية الفريدة. تجلّت هذه الرؤية في الأوبريتات والمسرحيات الغنائية التي قدّمت لبنان كبلد متعدّد الثقافات، يمتزج فيه التراث بالموسيقى الغربية بتناغم طبيعي، وبات هذا النهج لاحقًا قاعدةً لما يُعرف بـ”الموسيقى اللبنانية”.

مساحة للتأمّل

لكنّ كل شيء تغيّر مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية… اكتسبت أغاني الأخويْن الرّحباني طابعًا مختلفًا وباتت أقرب لمزيجٍ من الحنين الوطني والألم والأمل. أما فيروز فأصبحت الصوت الذي يحمل هذا الوجع، فعكست الأغاني حال البلد الممزقة وحملت في آن معًا مشاعر تجاوزت حدود لبنان.

وبعدما انطفأت شمعة عاصي عام 1986، واصل منصور الرحباني المشوار وحيدًا، لكن بأسلوبٍ مختلف. باتت أعماله أكثر ضخامةً، وازداد النص الغنائي تعقيدًا، والمسرحيّات الغنائية أكثر تطورًا من حيث البناء السّردي، كما يوضح الموسيقي أسامة الرحباني، نجل منصور.

ومنذ أواخر ثمانينيّات القرن العشرين وحتّى وفاته، قدّم منصور مجموعةً من الأعمال المسرحية الموسيقية حظِيَت بانتشارٍ واسع، واستمرّ عرض بعضها لسنوات. ومن أبرز أعماله: صيف 840 (1988) والوصيّة (1994)، وآخر أيام سقراط (1998)، … وقام في اليوم الثالث (2000)، وأبو الطيّب المتنبّي (2001)، وملوك الطوائف (2003)، وحكم الرعيان (2004)، وزنوبيا (2006)، وعودة الفينيق (2008). كما لحّن القدّاس الماروني عام 2000، حسب ما يضيف نجله بنبرةٍ تفيض بالفخر.

العالم العربي وخيبة الأمل

تخطّت تجربة منصور الرحباني الغناء والمسرح الغنائي، حيث حوّل الفن إلى مساحةٍ لقراءة التاريخ وانتقاد الواقع العربي، ليستحيل المسرح الغنائي الرحباني وسيلةً لمقاومة الانهيار الثقافي والاجتماعي. “لقد تغيّرت رؤيته جذريًّا”، على حدّ قول أسامة الرحباني. “لم يعد يركّز على الأغاني بقدر ما كان يسعى لابتكار أعمال متكاملة تحمل رسائل فكرية. ولو كان عاصي حيًّا، لتبنّى المسار نفسه، فلطالما سعى الأَخَوَان إلى التجديد”.

ومن ناحية أخرى، شكّلت الموسيقى الكلاسيكية عنصرًا أساسيًّا في فكر الأخويْن الرحباني، لكن بالنّسبة لمنصور، كانت أقرب لانتماءٍ للطبيعة والإنسانية. تأثّر بالإيقاعات الحالمة لموسيقى موريس رافيل الانطباعية، والرومانسية العاطفية لتشايكوفسكي وراخمانينوف، كما يُمكن ملاحظة لمسات سترافينسكي بشكلٍ خاص في عمله جبال الصوان (1969)، حيث تُذكّر بعض مقاطعها بـ”بتروشكا” (1911)، كما هي الحال مع ستوكهاوزن في مقدمة “البعلبكيّة” (1961) وتلميحات إلى ماهلر في بعض المقطوعات.

وعلى الرَّغم من انتشار أعمال الرّحابنة في لبنان وسوريا، كسَر منصور هذا الإطار حاملًا أعماله المسرحيّة إلى كلّ بقاع العالم العربي. ومع ذلك، يأسَف أسامة الرحباني لأن الاهتمام العربي الرسمي لم يَرْقَ لمستوى الإرث الذي تركاه.

وعلى أي حال، يبقى التاريخ هو الحكم… ومن المؤكّد أن إرث الأخويْن الرحباني سيبقى منقوشًا في ذاكرة الموسيقى العربية. واليوم، مئوية منصور الرحباني تقدّم الفرصة لإحياء هذا المجد وتقدير نبع الإلهام الذي لا ينضب والإبداع الموسيقي الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us