رياء سياسي وسلام هشّ

كتب Charles Chartouni لـThis is Beirut:
لا يسع من يراقب المشهد اللبناني إلّا أن يشعر بالقلق، خصوصًا أن الحقبة السياسية الجديدة تعاني بالفعل على ما يبدو من التعثّر. ولم يكن في الأصل وصول الرئيسيْن الجديديْن إلى السلطة مُصادفةً مُرَجَّحًا لولا الاضطرابات العسكرية والسياسية التي تسبّب بها التدمير الإسرائيلي للمنصّات العملياتية التي أدارتها السياسة الإمبريالية الإيرانية على مدار العقديْن الماضييْن.
وقد تبيّن مع الأسف أنّ الشخصيتيْن اللتين عُلّقت عليهما الآمال (جوزاف عون رئيسًا للجمهورية ونوّاف سلام رئيسًا للحكومة) شكلتا خطأً سياسيًا فادحًا. فعوضًا عن الالتزام بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي (1701، و1559، و1680) والسّير على طريق الاستقرار بعد حرب مدمّرة، انخرط الطرفان في حساباتٍ داخليةٍ ضيّقةٍ، وابتعدا عن مسار الإصلاح. ولعلّ ما يثير الاستغراب أكثر في سلوك هاتيْن الشخصيتيْن هو التجاهُل المتعمّد للواقع، وتغييبهما لحقيقة الصّراع الجاري، بينما كان يفترض أن تشكّلا ركيزةً للانتقال نحو السّلام وإعادة بناء الدولة. وبدلًا من كسر إرث الطائفيّة وتدوير الزوايا والمحاصَصة، انساقت الشخصيتان وراء تلاعب “الأوليغارشيات” الحزبية والتضليل الإيديولوجي والتشبيك الحزبي، بينما لبنان بأمسّ الحاجة للانفصال الحاسم عن إرث الطائفية المدمّر وعن توارث السياسة وعن التجاهل الصريح للدستور…
وأعادت المفارقة الصارخة بين التصريحات المبدئية والممارسات الفعلية إنتاج النموذج اللبناني التقليدي: كلامٌ خالٍ من المضمون وشعارات ينقصها الالتزام. وقد بدأ تقويض الثقة من لحظة تقاسم النفوذ والمغانم وتوزيع الحصص واحتكار القرار. أمّا النصوص الدستورية، فاختُزلت بمجرّد أدوات تُستخدم عندما تقتضي الحاجة.
صياغة اتفاق الطائف لم تؤسِّس لدولة القانون بقدر ما زرعت بذور التوظيف السياسي وصراعات النفوذ والانقياد لإملاءات الخارج بدلًا من الرّكون إلى مرجعية دستورية واضحة. وتعرّضت فرص إصلاح العملية السياسية للإجهاض في المهد. وبدلًا من القطع مع هذا الإرث المدمر، عمدت الطبقة السياسية لإعادة تدويره تحت غطاء “الإصلاح”. وعكس تشكيل الحكومة التشظّي السياسي العميق وأظهر غياب الإرادة في بناء ائتلاف متماسك قادر على الانخراط في مسار السلام الدولي والشروع في إصلاحات عاجلة وضرورية.
وبدلًا من البناء على أرضية الهدنة والاستفادة من الوساطة الدولية القائمة على ركيزتيْن أساسيتيْن: استعادة السلام وتنفيذ إصلاحات في السياسات العامة، انشغل الرئيس المنتخب ورئيس الوزراء الجديد بتقديم التنازلات لأجندات حزب الله وحلفائه وتكريس مراكز نفوذ متنافسة. وفشل الفريق التنفيذي في تحقيق الحدّ الأدنى من الانسجام السياسي بين جناحيْه، وعجز عن تأمين توافقٍ ضروريّ بين أعضائه. فكيف بمشهدٍ سياسيّ مفكّكٍ بهذا الشكل أن يعمل من دون أدنى اعتبار لوحدته وتماسكه الأساسي؟
أمّا الجانب الأسوأ في هذا المشهد القاتم فيُترجم بالفشل في الالتزام بالاستحقاقات الدولية، التي تُعدّ أساسيةً للانتقال إلى مرحلة السلام واستعادة سيادة وطنية منهكة وإعادة تفعيل مقوّمات الدولة. ويفسّر هذا العمَى المتعمّد في التعاطي مع الواقع، العجز عن تنفيذ القرارات الدولية وإعادة الحدّ الأدنى من الاستقرار وتعبيد الطريق أمام بناء المؤسسات. وفي الأصل، لعبة القوّة الطاغية وما تحمله من دلالات إيديولوجية وارتباطات استراتيجية، هي العائق الأساسي أمام مسار التطبيع واستعادة الدولة لدورها الطبيعي.
كما أنّ المقترحات المتكرّرة لعقد “طاولة حوار مع حزب الله” بذريعة صياغة “استراتيجية دفاعية” لا تخدم إلّا غاية واحدة: تأمين الغطاء السياسي لاستمرار السلاح خارج الدولة وتكريس دويْلات داخل الدولة. فليس من قبيل الصدفة الدعوة لعدم نزع سلاح الميليشيات وترك المخيمات الفلسطينية كجزرٍ أمنيةٍ وتجاهل تمدّد الضواحي المغلقة التابعة لحزب الله… كلّ ذلك نتاج صفقة سياسية واضحة، تُجنّب أي انخراط جدّي في مسار سلام مع إسرائيل.
وها هو لبنان يدفع ثمن خياراته السياسية من جديد، بعد ستين عامًا من الصراعات غير المحسومة. فالحروب العقائدية وتدخّلات المحاور العربية والإيرانية وانحرافات الصراع الفلسطيني، كلّها عوامل فاقمت الانهيار. وتبقى الحقيقة المؤلمة في غياب أفقٍ للسلام الدائم ما لم يتعرّض النظام الإيراني لهزيمة حاسمة أو يشهد تغييرًا في نهجه، إلى جانب ضرورة تفكيك البيئة الشيعية المتطرّفة ومحاسبة أذرعها الإجرامية.
أمّا الكارثة الاقتصادية، فتتفاقم بلا هوادة… سبع سنوات من الأزمات المتواصلة، ولا أحد في السلطة يُبدي أدنى اهتمام بمصير المودعين أو بأموال الضمان الاجتماعي أو صناديق التقاعد. ولا يُنظر لعمليّة النهب الكبيرة إلا كـ”عارضٍ جانبيّ”، لا كجريمةٍ منظمةٍ طالت كل بيت لبناني. وبغياب أيّ نيّة لإصلاح النظام المالي أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو تنشيط الاستثمار، تقتصر كلّ “خطط الإصلاح” على توزيع جديد للغنائم بين حساب الأصول العامّة للدولة، من دون أي محاولة لاستعادة الأموال المنهوبة أو إعادة ربط الاقتصاد الحقيقي بالنّظام المالي.
وفي قلب هذه المعمعة، يقف “حزب الله” وميليشياته الشيعية جنبًا إلى جنب مع مافيات القطاع المالي، في سباق لتصفية الحسابات والحفاظ على مصالحهم. وبالانتظار، تتلاشى الحدود بين الحرب والسلام، وتفقد “مرحلة ما بعد الحرب” معناها… بكلّ بساطة لأنها لم تُبْنَ على أيّ أولوية استراتيجية حقيقية، بل على صفقاتٍ آنية واصطفافات إقليمية تتجاهل الأزمات العميقة التي تهدّد بقاء الدولة…
مواضيع ذات صلة :
![]() الساحة العالمية وتعقيداتها | ![]() نادي القضاة: أصبح حق التقاضي مطيّة للتفلّت من العقاب! | ![]() دعوة إلى الإشمئزاز |