“هيركات”.. بِنَصلٍ جديد..

كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth“:
قد يخيّل إليك أنّ مفاجآت “مسلسل” الغرق الإقتصادي في لبنان انتهت حتى تصفعك الحكومة بحلقة جديدة.. فعنوان “الهيركات” العريض يعود إلى الواجهة، مع سيناريو أشد تشويقاً وتعقيداً وغموضاً من أي مسلسل على منصة “نتفليكس”! وفي الحلقة الجديدة، تسنّ الحكومة نصل “الهيركات” اللماع على عجلة في مجلس الوزراء، و”تحلق” للمودع وتتأهب لرمي عقود من الفساد وراء الدولة.. بهذه البساطة، يقترح مشروع قانون “إصلاح” القطاع المصرفي، تحميل كلفة الانهيار للمودعين والمصارف المحلية وتبرئة الدولة من تبعات سوء الإدارة الكارثية.
ولكن الحبكة المشوقة تتشابك مع الثغرات.. فما يُعرف بـ”الهيركات” على الودائع، سواء للمواطنين اللبنانيين أو المستثمرين الأجانب، يذكرنا بأنّ المودعين يعيشون منذ أعوام على نغمة “الدولارات الوهمية”، المحتجزة في نظام أشبه بصالة انتظار “للرهائن”.. بلا مخرج. وهذه المرة، الأمور أكثر تعقيداً فالحكومة لا تطمع بتقنين الخسارة فحسب بل وحتى فرضها وتكريسها بشكل قانوني ونهائي.
وما بالك بدرجة الإبداع في الحبكة مع دمج التشويق مع الخداع! فبدلاً من تحمّل الدين الهائل الذي راكمته لدى المصرف المركزي، وبالتالي لدى المصارف التجارية، تلجأ الدولة إلى خدعة تشريعية: إثقال كاهل من منحوا الثقة للنظام المصرفي من مواطنين ومغتربين ومستثمرين خليجيين بالخسائر، بغض النظر عن النتائج..
وبالتالي، قلما يهم أن تتهمش الثقة وتتآكل. وعلى أي حال، موظفو البنوك ليسوا أكثر من “كومبارس” في هذا المشهد ولا يتحملون وزر الكارثة. والمسؤولية تقع على الحكّام المتعاقبين الذين استنزفوا المال العام بالمحسوبيات والتوظيفات الانتخابية والمشاريع العبثية، إلى أن انهارت أسس البيت اللبناني بالكامل.
هؤلاء الحكّام أنفسهم يتقمصون اليوم دور “المصلحين الشجعان”.. عن كمّ المفاجآت والتشويق نتكلم! يريدون تدمير قطاع مصرفي منهار أصلاً من أجل إعادة بنائه على أنقاضه، بشراكة مع جهات دولية عملت منذ عام 2019، وحتى قبل ذلك ضمن مشروع قانون يرعى عمليات دمج وإقفال وإنشاء كيانات جديدة وتفكيك النظام المالي اللبناني، طمعاً في السيطرة على البلاد.
وفي الحلقة أيضاً، تكرار لبعض المشاهد المألوفة، كما في محاولة إعادة تفعيل النظام دونما مرور بالمحاسبة أو القضاء.
ومرور الكرام على المتضررين من “الهيركات”.. من مستثمرين عرب بارزين تحديداً من دول الخليج، كانوا ينظرون للبنان كمركز إقليمي للحرية المالية. هؤلاء أودعوا أكثر من 15 مليار دولار، ومشروع “الهيركات” يستهدفهم مباشرة. والعين على ردود الفعل..ربما في حلقات مشوقة مقبلة: بعضهم يستعدّ لمقاضاة الدولة اللبنانية أمام محاكم دولية، وآخرون يراقبون بصمت، لكن بيروت ما عادت على خرائط مشاريعهم المستقبلية. لا شك بأنّ هذا النوع من الإجراءات لن يستقطب بأي حال من الأحوال رؤوس الأموال المطلوبة لإعادة البناء.
مشروع هذه الحلقة لا يحمل أي إصلاح كما لا يقدم أي حلول. تراه محاولة لتصفية الماضي دون أي مواجهة أو مصارحة. لا يتوقف عند بنية الدين العام ولا المسؤوليات السياسية ولا الغموض في إدارة المال العام. إن مثل هذا المشروع أقرب لنصل شفرة يبتغي جزّ كل شيء ورميه في غياهب النسيان.
إن مثل هذه الحلقات أقرب لسيناريو مخادع ولتسويق لوهم كبير: إيهام المجتمع الدولي، وعلى رأسه صندوق النقد الدولي، الذي يعد بقرض “سخي” يصل حتى 3 مليارات دولار (مقابل فجوة تُقدّر بـ80 ملياراً)، بأنّ عجلة لبنان تتحرك وبأنّ التعافي ممكن.. ولكن الواقع مغاير تماماً.. النصل يكاد ينحر المودعين والمصارف وما تبقّى من مؤسسات الدولة. وذلك من خلال مشروع يعطي الأولوية لاقتصاد النقد أو “الكاش” المتغلغل في أنفاق التهريب وتجارة المخدرات والإتجار بالسلاح.
أما النهاية السعيدة فعلى بعد أشواط والسيناريو الخاص بها لم يكتب بعد.. الإصلاح الحقيقي يقتضي محاكمة النظام السياسي بأسره لا التضحية بكبش فداء ومحو الفاتورة بضربة “نصل”. فهل يتحلى البرلمان اللبناني بالشجاعة التاريخية لقول “لا”؟
النهاية السعيدة رهن اليقظة والوعي..
لقد قالها توماس جيفرسون في الماضي: “ثمن الحرية هو اليقظة الدائمة”. فهل يهتدي حكامنا المنتخبون؟