لبنان: خمسون عامًا على الحرب… والخاتمة مؤجّلة!

ترجمة هنا لبنان 19 نيسان, 2025

كتب Charles Chartouni لـ“Ici Beyrouth”:

الذكرى الخمسون للحرب الأهلية حلّت على لبنان مثقلةً بشعورٍ بالنقص بسبب ماضٍ لا يزال عالقًا… شعور ينبع مع الأسف من واقعٍ مريرٍ لحرب لم تنته يومًا. فها هي الحروب بأشكالها المتعدّدة تطارد لبنان وتجتاحه على تقاطع طرقٍ بين الداخل والخارج. وها هي الأزمات المتشابكة التي تطال الشرعية الوطنية وسيادتها والثقافة السياسية والحكم الرّشيد، توفر على مدى أكثر من ستين عامًا بيئةً مستدامةً لتنامي الصراعات. وها هي بنية الحروب لم تتغير، وإن تشبعت بالأزمات التي طبعت التاريخ المعاصر للبنان.
وعلى الرغم من تغيّر الجهات الفاعلة وتنوّع الرهانات، أعادت آليات تفجير الحروب إنتاج نفسها. فأسهم الإجهاز على السيادة وتجريم الدولة وانتشار الكيانات السياسية والقانونية الخارجة عن الدولة والسياسات التخريبية ذات الخلفيات الإيديولوجية والجيوسياسية، في تقويض الدولة اللبنانية لصالح مشاريع الهيمنة الإقليمية. كما أسهمت الأوهام الإيديولوجية التي جرى توظيفها بدهاء (من قبل قوى متعددة سورية وإيرانية وتركية وسعودية وقطرية وإسلامية) في تعميق أزمة شرعيةٍ مستدامةٍ ورسّخت سياسات التوظيف السياسي داخل الديناميّات الداخلية اللبنانية.
وإبتغاءً للموضوعية، لا بدّ من الإقرار بأنّ اللبنانيين تعلموا الدروس من خلال تجاربهم المريرة، وثاروا ضد سياسات الأسر السياسي، من دون التمكّن من كسر سلسلة الصراعات المتّصلة. فالغموض السياسي والاستراتيجي المتجذّر في الثقافة السياسية داخل المجال العربي – الإسلامي لم يسهم في استقرار الدول، ولا في حلّ إشكاليات التعدّدية وما تفرزه من آثار على السلم الأهلي وشرعية الدولة. فالصراعات لا تندلع من فراغ؛ بل تحتاج إلى تربةٍ خصبةٍ، والواقع اللبناني لطالما شكّل الساحة الأكثر خصوبة.
لقد أعادت حرب 2023 تسليط الضوء على خطورة الاختلالات الدستورية والسياسية التي تنهش الحياة العامة والتي تجري في فراغٍ هائلٍ، وانعكاساتها على الحياة السياسية حيث تحلّ موازين القوى محل القانون والمدنية الديموقراطية. لقد تمّ محو الموروث المركّب للمشروع الوطني اللبناني لصالح تصوّرات إيديولوجية كأطروحة “الأمة” وسياسات القوة. أمّا مشروع حزب الله السياسي، فلا يعدو كونه أكثر من نسخةٍ معاصرةٍ لنموذجٍ قديمٍ من الهيمنة، صاغ معالم السياسات الصراعية على مدار قرن مضى منذ سقوط الإمبراطورية الإسلامية (الخلافة). ولم تحظَ الصراعات العِرقية والقوميّة يومًا بالاعتراف بقيمتها الحقيقية، وبالتالي لم تُمنح فرصًا لحلولٍ تفاوضية أو هندسات دستورية، بفعل احتكام المشهد إلى معيارية إسلامية أحادية.
ها هو لبنان يجد نفسه مجددًا بمواجهة معضلات السيادة على أراضيه، ومع واقع التسلط الخارجي والحروب بالوكالة وتضخم عوامل الصراع وأزمات الشرعية المُستدامة. لقد خضعت آليات التحكيم الدستوري والممارسات الديموقراطية المتحضّرة للتقويض لصالح سياسات الهيمنة المتلاحقة ومكر الإيديولوجيات المضلِّلة التي أمنت لها التغطية. ولم تتمكن الهزائم العسكرية التي تكبّدها حزب الله حتى من كسر سطوة الأوهام الإيديولوجية التي يقوم عليها مشروعه. وهذا يعني أن نهاية هذا الوهم مرتبطة بشكل جوهري بانهيار الأسطورة ذاتها: مشروع النظام الإيراني الإمبراطوري.
لقد عفا الزمن على سرديّة النظام الإيراني وما عاد خطابه مقنعًا أو قابلًا للاستمرار. لم يتبقَّ منها اليوم إلا تساؤلات مصيرية حول مستقبل الديكتاتورية الإسلامية في طهران وأذرعها الاستراتيجية الإقليمية. وقد يُفضي تفكيك شبكات الوكلاء التي شيّدها النظام بعنايةٍ وتدمير منصاته العسكرية التقليدية وغير التقليدية في نهاية المطاف إلى نهاية تاريخية معلنة، تُنهي مشروعًا إمبراطوريًا فقد أدوات بقائه. ومع ذلك، تبقى مسألة بلورة روايات سياسية بديلة رهنًا ببيئةٍ جيوسياسيةٍ مستقرةٍ تتيح فسحة للخيارات الديموقراطية. وهذا الأمر لا يزال بعيد المنال.
للأسف، لم يسفر الأفق السياسي المسدود حتى الآن عن تحوّلات مؤسّسية وسياسية مطلوبة. فلا الهزائم العسكرية ولا الهدن الموقتة أفلحت في إسقاط دعاوى السيادة البديلة أو وقف السياسات التخريبية والممارسات المرتبطة بالجريمة المنظّمة التي يمارسها حزب الله وحلفاؤه. يبدو أن القيادة اللبنانية الجديدة لم تستوعب بعد التحوّلات الاستراتيجية الجارية، ولا تملك رؤيةً سياسيةً واقعيةً للتعامل معها. بل إنّ الجمود الإيديولوجي وقصر النظر السياسي يُتخذان كذريعةٍ للتهرّب من مواجهة التحديات الحقيقية، وعلى رأسها ترسيخ السلم الحدودي وإنهاء الهيمنات السياسية والعسكرية الخارجية. ولا يمكن كسر سياسة الإنكار، وما يتفرّع عنها من تجلّيات إيديولوجية واستراتيجية، إلا بإعادة تشكيل موازين القوى واعتماد وعي نقدي يضع موضع تساؤل الأنماط الذهنية والممارسات التي تُطيل أمد الصراع.
وتشكّل المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران نقطةً حاسمةً في مسار تحديد ملامح المرحلة المقبلة. فقد تمّ بالفعل تجاوز مناورات النظام الإيراني ومواعيده الفضفاضة لصالح مطالب رسمية واضحة بمعنى نزع السلاح النووي العسكري والانسحاب من التدخلات الإقليمية وإنهاء سياسات التخريب القائمة على “المسارح العملياتية المندمجة” واحترام حقوق الإنسان داخل إيران.
كما أنّ هامش الحركة لدى النظام الإيراني يتضاءل بشكلٍ ملموسٍ بفعل هشاشته العسكرية وتدهور أمنه الداخلي وتآكل شرعيته. ويشهد تفكيك شبكاته وتدمير قواعده العملياتية واختراق منظومته على ضعفه وعلى عبثية محاولات حزب الله للعودة إلى المشهد والتعافي. الحزب ما عاد أكثر من مجرّد ظلٍ لمشروعٍ فاشلٍ بالكامل، ولا تلوح في الأفق أي إمكانات لإعادة بنائه وعودته مجرد خيال سياسي.
ومع ذلك، تكمن المشكلة الجوهرية في عدم استيعاب السلطات اللبنانية الحالية بعد لحجم التحوّلات الجيوسياسية الحاصلة، ولا امتلاكها الشجاعة لرسم سياسة واقعية وفقًا لهذه المعطيات. وبدلًا من ذلك، تستمر في التحايل الإيديولوجي والتهرّب من استحقاقات الأمن والسيادة. ويكشف رفض الانخراط في مفاوضات سلام مع إسرائيل، والتذرع بمبرّرات واهية لرفض الحوار عن الفشل السياسي المبكر لسياسة الهروب إلى الأمام.
وفي المحصلة، يبدو أن صفحة الحروب لم تقلب… بل خضعت للتأجيل. ولا يزال لبنان مع الأسف، ساحة حربٍ بالوكالة. ولكن حذارِ، لا يبدو أنّ إسرائيل ستتهاون مع هذا الوضع لوقت طويل!.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us