حتّى فرنسا عجزت في لبنان
نشر موقع Mondafrique بعنوان: “السلسلة (3) ، أفكار إيمانويل ماكرون البسيطة (أيضًا) حول لبنان”
لا تستسلم فرنسا في مواجهة استمرار الأزمة في بيروت، لكنها تغير مسارها، وتخاطر باتهامها بأنّها من الهواة . مقال ميشال توما
“نحو الشرق المعقَّد ، طرت بأفكار بسيطة” هذا الهروب للجنرال ديغول، الذي أثاره بإحدى رحلاته الأولى إلى لبنان، ينطبق على مبادرة “إيمانويل ماكرون” التي أطلقها في تموز الماضي بهدف مساعدة لبنان على الشروع في طريق الخروج من الأزمة. ومثل الجنرال، اقترب الرئيس الفرنسي من لبنان بأفكار بسيطة وربما بسيطة للغاية.
بعد عشرة أشهر من مأساة المرفأ التي دمَّرت الأحياء المسيحيَّة القديمة في بيروت وخلَّفت أكثر من 200 قتيل و6000 جريح، لم تسفر المبادرة الفرنسيَّة بعد عن النتائج المرجوَّة. بل على العكس من ذلك، تفاقمت الأزمة الاجتماعية والاقتصاديَّة والماليَّة والسياسيَّة والدستوريَّة.
وفي الأيام الأخيرة، ازداد المأزق السياسي أكثر مع فشل التحرَّكات النهائيَّة لتشكيل حكومة جديدة.
السبب الرسمي (المعلن) هو الحرب بين معسكر رئيس الجمهورية ميشال عون ومعسكر رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري وربما تكون هذه الاختلافات مجرد غَيْض من فَيْض. وموقف “طهران” يتمثَّل بعدم التنازل عن ثقلها في لبنان، من أجل تثبيت قبضتها على الساحة اللبنانية. وهناك وزن كبير لمحادثات “فيينا” عند المجتمع الدولي حول تسوية أخرى لها. فإذا تمَّ تأكيد هذا السبب الخارجي، فإن ذلك يفسِّر النَّهج السياسي المتَّبع لعدة أشهر لتشكيل حكومة جديدة.
وفي الواقع، تمَّت استشارة الأحزاب السياسيَّة الرئيسيّة حول تعيين ممثِّليها في الفريق الوزاري. ولا تتعلق المفاوضات بتمثيل الأطراف فحسب، بل تتعلَّق أيضًا بتوزيع الحقائب الوزاريَّة بين الطوائف. وهذا نقيض ما دعا إليه الرئيس ماكرون في بداية المبادرة الفرنسية.
خارطة طريق الإليزيه
كانت الزيارة الأولى للرئيس ماكرون لبيروت، بعد ثمانية وأربعين ساعة من انفجار 4 آب، مكرَّسة بشكل أساسي لتفقُّد مسرح المأساة، والقيام بجولة في الأحياء المنكوبة حيث استقبله سكانها بترحيبٍ خاص. لا سيما وأنه لم يتكلَّف أي مسؤول لبناني عناء الاستماع إلى السكان.
في 1 أيلول، عاد رئيس فرنسا إلى بيروت والتقى بالرئيس اللبناني، ولكن قبل كل شيء التقى بقادة الجماعات السياسيَّة الرئيسيَّة في البلاد، بما في ذلك ممثِّل رفيع المستوى لحزب الله الموالي لإيران. ثم تمَّ تقديم خارطة طريق إلى القادة الحاضرين، مع التركيز على النقاط التالية: تشكيل “حكومة مَهَمَّة” تضم وزراء مستقلين تمامًا عن الأحزاب السياسية، وتنفِّذ هذه الحكومة سلسلة من الإصلاحات الهيكليَّة التي من شأنها أن تجعل من الممكن إطلاق مساعدة اقتصادية بقيمة 11 مليار دولار، التي تمّ الاتفاق عليها في مؤتمر المساعدات الاقتصادية في لبنان الذي عُقد في باريس في نيسان 2018. تعود جهود الرئيس ماكرون لصالح لبنان منذ ذلك التاريخ، عندما عقد رئيس الإليزيه “المؤتمر الاقتصادي لتنمية لبنان من خلال الإصلاحات ومع الشركات” (سيدر) عُقد مؤتمر نيسان 2018 بحضور مسؤولين من 50 دولة ومنظَّمة دوليَّة، ورئيس الحكومة اللبنانية آنذاك سعد الحريري، ووفد وزاري لبناني وممثِّلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني اللبناني. وقُدِّمت في هذا المؤتمر خطَّة إصلاح واستثمار شاملة لتطوير البنى التحتيَّة الأساسية، كانت قد قامت السلطات اللبنانية بإعدادها. لكن تقديم هذه الهبة (البالغة 11 مليار دولار) كانت مشروطة بتبنّي سلسلة من الإصلاحات، لاسيّما في النواحي التي أدَّت إلى تفاقم الأزمة الماليَّة والاقتصاديَّة التي تضرب لبنان بقوَّة .
– سفير لبنان في ألمانيا على المسار الصحيح!
لذا فإنَّ “خارطة الطريق” الفرنسية في الأول من أيلول 2020 مشروطة بالإصلاحات المنصوص عليها في مؤتمر نيسان 2018. وبالالتزام الواضح من قِبل قادة الأحزاب السياسيَّة _ بما في ذلك “حزب الله”_ بخارطة الطريق هذه. لقد سعى الرئيس ماكرون وبادر بقوة، حتى أنه خلال لقاءاته في بيروت في بداية أيلول، اقترح اسمًا لتشكيل “حكومة المَهمَّة” وهو السفير اللبناني في ألمانيا الحامل للجنسيَّة الفرنسيَّة “مصطفى أديب”، ابن مدينة طرابلس السنيَّة في شمال لبنان، والحائز على دبلوم في “العلوم السياسيَّة” من جامعة “Montpelier”.
ولا يعارض أي زعيم هذا الاقتراح. وحزب الله الذي جعل من هذه المبادرة مخملية، يؤكد على أنه رغم دعمه (علناً على الأقل) لها، إلا أنّه يرفض ثلاث نقاط: أي مناقشة محتملة حول ترسانته العسكرية (ولسبب وجيه: إن أسلحته في خدمة الاستراتيجية الإقليمية للإيرانيين ومصيرهم لا يتوقف على الحزب)؛ وأي تحقيق دولي في انفجار 4 آب (لا سيما وأن الدوائر المحلية تحمله المسؤوليَّة المباشرة عن هذا الانفجار) ؛ وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة. وقد صرَّح مصدر دبلوماسي فرنسي مقرب من وزارة الخارجية الفرنسيَّة لـ Mondafrique في هذا السياق أن السفير اللبناني في ألمانيا كان في الواقع مرشحاً من إيمانويل ماكرون والمستشارة أنجيلا ميركل: “الألمان شعروا بمصطفى أديب أولاً، ثم سرعان ما استحوذت شخصية السفير على الرئيس الفرنسي، وهو خريج معهد العلوم السياسيَّة وحاصل على الجنسيَّة الفرنسيَّة”. لذلك، تم تعيين مصطفى أديب خلال شهر أيلول، من قِبل الرئيس عون لتشكيل الحكومة.
وبدأ أديب المفاوضات وكان أحد محاوريه الرئيسيين، وزير المالية علي حسن خليل، المستشار الرئيسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، والمقرَّب في الوقت نفسه من حزب الله. بعد ذلك أدرج الأمريكيون وزير المالية على لائحة العقوبات (بتهمة الفساد)، مما يجعل من المستحيل عليه في المستقبل أن يكون ممثِّل لبنان لدى صندوق النقد الدولي. ومن ثمّ، ودون إخطار رئيس الوزراء المنتظر رفض حزب الله مواصلة المفاوضات .
هل استخدم الحزب الشيعي هذه الذريعة لإفشال تشكيل الحكومة؟ الأمريكيون من جانبهم ، هل كانوا يريدون إفشال المبادرة الفرنسية التي كانت ستطفَّل _لو نجحت_ على المفاوضات مع إيران؟
بهذا الصدد قال دبلوماسي فرنسي لـ Mondafrique: “تعيين مصطفى أديب الذي لم يكن مؤثراً سياسياً في لبنان أعاد الآلة إلى مسارها الصحيح، والملف اللبناني فوق السطح. ربما ما لم تكن تريده الإدارة الأمريكية “.
يرفع الفرنسيون أصواتهم
تبين أن مهمة مصطفى أديب في مواجهة العقبات التي تظهر بشكل مفاجئ أصعب مما كان متوقَّعاً، وفكَّر رئيس الوزراء المكلَّف بجديَّة في إلقاء المنديل. لكن بينما يستعد لإبلاغ الرئيس عون بقراره، تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس ماكرون: “لا تحركوا ساكناً! سنصل إلى هناك، وسأضع كل قوَّتي في الميزان “. وافق السيد أديب على إعطاء فرصة أخيرة أخرى. لكن الانسداد مستمر. وقال مصدر مقرب من وزارة الخارجيَّة الفرنسيَّة: “لم يكن لديه معارض معروف، لكن لا أحد في الطبقة السياسيَّة اللبنانيَّة كان يريد نجاحه”؛ لذلك تخلَّى عن تشكيل الحكومة.
وبعد هذا الانسحاب، وفي مواجهة تعقيدات الواقع السياسي – الاجتماعي – المجتمعي اللبناني، أطلق الرئيس ماكرون العنان من “قصر الإليزيه” ضد الأطراف اللبنانية، ولا سيما حزب الله الذي يعرف مسؤوليته عن فشل الحاصل.
وفي نهاية تشرين الأول، تم تعيين سعد الحريري لتشكيل الحكومة. لكن جهوده ما زالت غير ناجحة حتى اليوم (الجمعة 4 حزيران ، بعد عشرة أشهر من انفجار 4 أغسطس) في مواجهة استمرار الأزمة الوزارية والسياسية، تضاعفت الانتقادات الشديدة من القادة الفرنسيين، ولا سيما من وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان” الذي حذَّر في عدة مناسبات من “اختفاء لبنان” (ككيان مستقل) إذا استمرت الأزمة. بل إنه ذهب إلى حد اتِّهام أقطاب السلطة وبعض السياسيِّين بـ “عدم مساعدة دولتهم المعرَّضة للخطر”.
وفي مطلع أيار الماضي، قام لودريان بزيارة قصيرة إلى بيروت مثَّلت تغييراً في المسار الفرنسي تجاه الوضع في لبنان: بهدف إبراز حقيقة أن باريس قد يأست من أولئك الذين يتولُّون زمام السلطة. أما على السَّاحة اللبنانيَّة، فاكتفى بعقد ثلاث لقاءات موجزة مدة كل منها عشرين دقيقة متتالية مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوَّاب ورئيس الوزراء المكلَّف لأسباب بروتوكوليَّة، وبلَّغهم قرار فرنسا بتبني عقوبات – “إجراءات وطنية مقيدة” – ضد المسؤولين الذين يعرقلون تشكيل حكومة جديدة؛ وبالتوازي مع هذه اللقاءات البروتوكوليَّة القصيرة مع أقطاب السلطة الثلاثة، عقد اجتماعاً طويلاً استمرَّ قرابة ساعتين في مقرِّ السفير الفرنسي مع ممثلين ومسؤولين عن بعض الجماعات السياسيَّة والجمعيَّات المعارضة، بما في ذلك ثلاثة نوَّاب سابقين. واستمع إلى تصورهم للوضع الحالي في البلاد وحثَّهم على توحيد صفوفهم حول برنامج مشترك في الفترة التي تسبق الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في أيار 2022.
لا يبدو أن فرنسا تستسلم في مواجهة الارتباك اللبناني. وفي هذا السياق تعرب بعض أوساط المعارضة المعادية للسيطرة الإيرانية على بلاد الأرز _ عبر حزب الله_ عن أملها في أن تتمكَّن باريس من الاستفادة من نفوذها الغالب داخل الاتحاد الأوروبي ، فضلاً عن علاقاتها الجيدة مع الإدارة الأميركية الجديدة؛ لأجل منع المفاوضات الحالية مع إيران التي أجريت في “فيينا” من أن تؤدي إلى “صفقة شاملة” يتحمل “لبنان الحر المستقل” العبء الأكبر منها.
المصدر: موقع Mondafrique
مواضيع ذات صلة :
لودريان للبنانيين: الوقت لم يعد لصالحكم | حجر على قبر المبادرة الفرنسية | بري: ما نُقل عن طي صفحة المبادرة الفرنسيّة ليس دقيقًا والحوار هو السبيل الوحيد لتقريب وجهات النظر |