“العالم” هنا انتهى.. لم يعد لبنان الذي عرفناه من قبل
كتبت لينا منذر في “نيويورك تايمز”:
لم أتخيل أنني سأعيش لأرى نهاية العالم. ولكن هذا هو بالضبط ما نعيشه في لبنان اليوم. نهاية أسلوب حياة كامل.
قرأت العناوين الرئيسية في لبنان، وهي قائمة على الحقائق والأرقام، العملة منذ العام 2019 فقدت أكثر من 90٪ من قيمتها؛ 78 في المائة من السكان يعيشون في حالة من الفقر؛ هناك نقص حاد في مادتي الوقود والمازوت والمجتمع على وشك الانهيار التام.
ولكن ماذا يعني هذا كلّه؟ يعني أنّ الأيام تمضي في زحمة الضروريات الأساسية. الحياة باتت مختزلة بكيفية البقاء على قيد الحياة، والسكان كل شيء استنفدهم جسديًا وعقليًا وعاطفيًا.
في لبنان، أصبحت أتوق إلى أبسط الملذات: الاجتماع مع العائلة أيام الأحاد لتناول وجبات لم تعد متوفرة الآن، القيادة على الطريق الساحلي للقاء صديق، بدلاً من توفير البنزين لحالات الضرورة، الخروج لارتشاف “كأس” في مار مخايل، دون التفكير في المجالس القديمة التي أغلقت اليوم أبوابها.
لم أعتد على التفكير مرتين في هذه الأمور، ولكن الآن بات من المستحيل الانغماس في أي من هذه الكماليات.
أبدأ أيامي في بيروت منهكة بالفعل، لا يسعفني وجود محطة وقود قريبة من منزلي، فالسيارات بدأت منذ الليلة السابقة في الاصطفاف للحصول على الوقود ما أدّى إلى إعاقة حركة المرور، وعند الـ7 صباحًا ، بدأ يرتفع صوت الأبواق والصراخ، الأمر الذي يوتر أعصابي.
الجلوس للعمل كاد يكون مستحيلاً، بطارية الكمبيوتر الخاص بي تدوم لفترة طويلة، ففي الشارع الذي أحيا فيه لا تأتي كهرباء الدولة إلاّ لساعة واحدة فقط في اليوم. بطارية الـ”UPS” التي تغذّي الراوتر تنفد عند الظهيرة، فأتأخر عن الموعد النهائي لتسليم العمل.
كتبت عددًا لا يحصى من رسائل الاعتذار المخجلة، ماذا أقول؟ بلدي ينهار ولا توجد لحظة واحدة في يومي لا يلحق بها هذا الانهيار.
في الصيف، الليالي تمضي بلا نوم، فمولدات المبنى تعمل لأربع ساعات فقط، قبل أن تنطفئ منتصف الليل تقريبًا لتوفير المازوت، هذا طبعاً، إن تكرّموا علينا بتشغيلها.
كل يوم، هناك مستوى جديد من الانهيار كي نعتاد عليه.
في أحد الأيام، كنت بحاجة لتصريف الدولارات كي أشتري الخبز. وفي محل الصرافة كان هناك أيضاً طابور فسعر الدولار انخفض قليلاً مع انتشار شائعات تقول بأنّ الرئيس المكلّف على وشك إعلان تشكيلته.
هذه الشائعات تبدو لي مثل النكتة، فنحن منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 من دون حكومة، والرؤساء الذين تعاقبوا منذ ذلك الوقت على تشكيلها فشلوا في المهمة، بسبب المحاصصة والسجال الدائر بين الأحزاب السياسية. هي الأحزاب نفسها التي أوصلت البلد إلى كلّ هذا الخراب.
ومع ذلك، فإنّ الشائعات تؤثّر، وكلما انخفض سعر الصرف، يسرع الناس إلى محلات الصيرفة لتحويل ليراتهم غير المفيدة إلى دولارات.
ما إن صرّفت الدولارات، حتى توّجهت إلى السوبرماركت، وفي الطريق صادفت سيدة عجوز تجلس على الرصيف، أردت منحها بعض المال وزجاجة مياه باردة، زجاجة لم أجدها إلاّ بعدما سألت في أربعة متاجر. هناك أدركت أيضاً لأوّل مرة أننا نواجه نقصاً في المياه المعدنية.
في الأسبوع الماضي، كنت قد اكتشفت أنّ هناك نقصاً في الغاز المنزلي، بعدما نفدت العبوة في منزلي وأجريت عشرات المكالمات، ودفعت خمسة أضعاف السعر لأتمكن من استبدالها.
ومع أنّ غاز الطهي يعدّ من الأمور الأساسية، إلا أنّ نقص المياه المعدنية يشكّل أيضاً كارثة كبرى في بلد لا تعدّ فيه مياه الحنفية صالحة للشرب أو الطهي، ومع ذلك هذه المياه أيضاً معرضة للانقطاع، فكما لا يوجد وقود لتشغيل الآلات اللازمة لمعامل المياه المعدنية، أيضاً لا وقود لتشغيل المضخات اللازمة لتوفير مياه الحنفية.
والخبز ليس مختلفاً إذ لا يمكن العثور إلاّ على القليل. والسوبرماركت الذي قصدته كان فارغاً نوعاً ما، ومظلماً أيضاً. فأقسام اللحوم والأجبان خلت من الأصناف بسبب غياب التبريد. وكما قلت لا خبز، فأدركت وبعد سؤال بعض المتاجر أنّ علي الذهاب إلى الفرن.
الشارع الذي به الفرن أحاول قدر المستطاع تجنّبه، فموقعه إلى جانب محطة الوقود والتي تحوّلت إلى الخط الأوّل في المعارك، هناك تبدأ المشاكل دون موعد مسبق والتي يستخدم في بعضها السلاح، ويقتل فيها الناس.
وحديثاً، قتل 33 شخصاً في عكار – التي تعد من أفقر مناطق الشمال – على خلفية انفجار صهريج كان الناس يتدافعون حوله لملء سياراتهم بالوقود.
شققت طريقي وسط الحشود والعناصر العسكرية – التي كانت تحاول ضبط الوضع قدر المستطاع – كي أصل إلى الفرن، وتمكنت من شراء آخر ربطة خبز. هناك أخبرني العمال عن الخوف الذي يشعرون به، وخشيتهم من أيّ عراك مسلّح أو حتى من انفجار ما دفعهم إلى الاستعانة بالدعائم المعدنية.
العودة إلى المنزل كانت مريعة، لا إشارات مرور في الطرقات، الدراجات النارية تتسابق في جميع الاتجاهات وحتّى على الأرصفة.
بعد 3 ساعات من المغادرة وصلت أخيراً، وصعدت 12 طابق كي أصل، فالمصعد توقف عن العمل منذ شهر.
ببساطة، لا مكان للراحة، ولا حتى أمان. فالمستشفيات باتت منهكة وعلى وشك الإغلاق. وهناك أزمة دواء فحتى مرضى السرطان لا يجدون علاجهم.
الأصدقاء الذين لديهم أطفال، يعيشون في حالة رعب من أن يصاب أولادهم بأيّ مرض. مؤخراً، أصابت الحمى ابن صديق لي ولم يتم إيجاد أيّ دواء في الصيدلية، حتى كمادات الثلج البادرة لم تعد متوفرة، ومواقع التواصل تزدحم بأشخاص يبحثون عن الدواء، هذا تحتاج والدته المصابة بمرض القلب إلى دواء ضغط ضروي، وذاك يحتاج والده المصاب بالسكري إلى “الأنسولين”. وفي كثير من الأحيان يتم البحث عن مغترب يأتي بالدواء من الخارج؟
حتى أدوية الاكتئاب لم تعد متوفرة، ومنذ وقت ليس ببعيد، أعلن Embrace ، وهو الخط الساخن الوطني للانتحار ، عن إيقاف الخدمات مؤقتًا بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
في لبنان يموت الناس بأمراض يمكن علاجها، مثل لسعات العقارب والحمى، فيما تتزايد حالات التسمم الغذائي، فمع انقطاع التيار لم يعد أيّ شيء صالح للأكل، ومن الصعب أن تحدد ما تأكله، وأنا أصبحت أحدّد في محتويات الوجبات التي نأكلها 3 أو 4 عناصر، جميعها غير قابل للتلف، والخبز هو من الأشياء النادرة الآمنة.
ومع ذلك، فإنني أعدّ من القلائل المحظوظين، فهناك من يعاني أكثر مني. أنا لدي أربع ساعات كهرباء مولد في اليوم؛ غيري لا ينعم بهذا الأمر. أنا قادرة على صعود الدرج في كلّ مرة اضطر فيها للمغادرة، بينما المسنّون وذوو الاحتياجات الخاصة اضطروا إلى البقاء في منازلهم.
وبالرغم من كل الظروف، ما زلت أعمل في منزلي، ولست مضطرة للتخلّي عن العمل لقضاء أيام وأنا أنتظر دولي في طابور الوقود.
في لبنان، الحد الأدنى للأجور أصبح أقل من 50$ في الشهر، فيما المواد الغذائية ارتفع سعرها خلال عام واحد أكثر من 500%.
في لبنان، كل أسبوع أقول وداعا لصديق عزيز، قرر المغادرة.
ببساطة لم تعد بيروت كما كنا نعرفها…. حتى خلال الحرب الأهلية تمتعت المدينة بطابع معين، فالقصف لم يحرمنا الكهرباء، ولم نغرق في الظلام الذي نحن فيه اليوم.
خلال الحرب، كان هناك وقت للراحة، يتوقف فيه إطلاق النار.
أي حياة نعيشها اليوم؟ من دون كهرباء، سيارات، غاز طبخ، إنترنت، مياه شرب؟ لا يوجد (break) من هذه الحرب الاقتصادية.
هذا هو الواقع تماماً. الوقود والأدوية، على الرغم من ندرتها ، ليست متوفرة. وإنّما هي مخزنة لدى أفراد ومؤسسات مرتبطة بالطاقم السياسي، ومن المرجح أن يتم تصديرها أو بيعها في السوق السوداء.
لبنان ليس استثناء. هذه صورة ما يحدث عندما يخسر الناس الموارد التي اعتقدوا أنّها متوّفرة إلى ما لا نهاية.
هذه السرعة التي ينهار بها المجتمع، هكذا هو المشهد عندما ينتهي العالم كما نعرفه.
المصدر : نيويورك تايمز
مواضيع ذات صلة :
طائرة مساعدات خامسة من الأردن إلى لبنان | أدوية الأمراض المزمنة متوفرة لمدة ستة أشهر | نصائح غذائية لخفض الكولسترول من دون أدوية |