رياض سلامة … ماذا لو؟
رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، يتصدّر مجددا عناوين الانشغال العام، من بيروت الى برن، بعدما أثارت حفنة من “الوشاة” أخبارا حركّت القضاء السويسري للتحقيق في مزاعم استنادا الى “تقارير إعلامية”. مادة اعتبرها “دسمة” بعض من الاعلام الناشط على خط سوق حملات ممنهجة ضد سلامة، فمزج ما بين طلب الاستدعاء السويسري وبين تحويلات شخصية له بمقدار 400 مليون دولار، إدّعى أنها جُمّدت في مصارف سويسرا، وهو خبر لم يجد مَن يتبناه، ولا حتى النائب السويسري فابيان مورينا الذي قيل إنه المصدر.
الخبر أحدث إرباكا صامتا في بعض المشهد السياسي والشعبي لتداخل التفاصيل وزحمة التوقعات، فيما مضى البعض الآخر في معركة أرادها مفتوحة مع الحاكم الذي عصى ولعقود، على الرغبات المحلية امتثالا لطلبات خارجية (العقوبات الأميركية) وحاول ان يقف في وجه مشروع “تشريق” الاقتصاد. حملٌ ثقيل رُمي على كاهل الشارع اللبناني المعكّر بروائح أزمات تفجّرت دفعة واحدة نتيجة “العبث السياسي”، بما افضى الى تفكك نظام الدولة الحديثة، بعد لبنان النموذج الذي حلمت دول كثيرة ان تحتذيه. فماذا ستحمل الأيام المقبلة؟
الى برن السويسرية، يتحيّن سلامة الفرصة المتاحة وفي أقرب وقت، لزيارة قضائية تعيد الأمور الى نصاب متفلّت، مزودا بكل الوثائق والمستندات التي تدحض، وكما أكد في بيانه عقب لقائه المدعي العام التمييزي اللبناني القاضي غسان عويدات، حصول “أي تحاويل من حسابات لمصرف لبنان او من موازناته”. يدرك سلامة ان الحملات التي تستهدفه منذ أعوام، لم ولن تتوقف. واذا كانت قدرة سلامة على امتصاص الضغوط التي تُمارس عليه، لا تزال تستوعب المزيد، طالما انه واثق ومرتاح الضمير حيال أدائه الشخصي والعام، فهل تتسع قدرة لبنان لمزيد من الضغوط والصدمات السلبية؟
في قراءة التداعيات، يمكن التوقف عند المفاصل الحساسة الآتية:
أولا- سمعة لبنان المالية. فاذا اعتقدت وزيرة العدل ماري كلود نجم ان المراسلة التي تسلمتها واحالتها “ع السِكّيْت” الى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات (؟) فهي حتما مخطئة. اذ ان نسخات عن طلب القضاء السويسري الذي نشرته وكالة “رويترز” منتصف الأسبوع الماضي، بلغت أروقة المصارف المركزية في العالم كما وحدات الامتثال والمصارف المراسلة، بما من شأنه تهشيم صورة مصرف لبنان والمصارف التي تتخبط في واقع “ضبابي”، فضلا عن تعكير علاقاته مع المجتمع المالي الدولي.
ويطال السوء أيضا صدقية القطاع المصرفي الساعي الى تغطية ما خسره بالمؤونات الميسرة وليس الصحيحة، تلبية لتعميم مصرف لبنان رقم 154 الذي يستحق في شباط المقبل، ويفرض إعادة تكوين التزامات المصارف وزيادة رساميلها بنسبة 20%، وإعادة الأموال المحوَّلة بنسبة 15 إلى 30%، وإعادة تكوين نسبة 3% في حساباتها لدى المصارف المراسلة، تحت طائلة وضع اليد عليها وتصفيتها. وثمة عدد قليل من المصارف قادر، وبعد بيع وحداته في الخارج، على تلبية شروط الرسملة وسيولة الـ3% الخارجية، فيما يبقى مصير مصارف أخرى غامضا، بما يدفع للاستنتاج بان تقليص حجم القطاع الى 15 مجموعة مصرفية في حد اقصى، سيكون من احد الملفات الثقيلة التي ستشغل المصرف المركزي طويلا وتنهك قدراته التمويلية.
ومعلوم ان كلفة ترميم الثقة بالنظام المالي والمصرفي تحتاج الى فترات زمنية طويلة عابقة بالجهود والبراهين، لإقناع المجتمع الدولي باحتضان لبنان مجددا كدولة غير قادرة على النهوض الا بدعم من المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد والبنك الدوليين، مقابل مسيرة إصلاحية تبدأ بمحاسبة مهدري المال العام ولا تنتهي بوقف مسيرة معاناة تشكيل “حكومة المهمّة”.
ثانيا- سمعة لبنان الاقتصادية. فاذا اعتقد بعضهم في بيروت ان الحملة على سلامة ستطاله شخصيا الى حد “استبداله” بحاكم آخر في هذا الوقت السياسي الحرج، فهو حتما مخطئ. لان وضع مصرف لبنان او حتى حاكمه في قفص الضغوط، لن يفضي إلا الى تفاقم الازمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بفعل ترابط حلقات الحلول المؤقتة التي يجهد سلامة لتيسير ما يمكن منها، وتحديدا مع استنباط آليات دعم المواد الحيوية والاولية لعدد من القطاعات، والتي يهدرها الطاقم السياسي بتشريع أبواب التهريب غير الشرعي نحو الاقتصاد السوري وما أبعد منه.
وقد أبلَغَ البنك الدولي حاكم مصرف لبنان ووزير المال بضرورة إجراء إصلاح للقطاع المالي، اضافة إلى إصلاح آلية الدعم في إطار التثبيت الاجتماعي، “وإلا ستواجه الحكومة تحديات أصعب”. وأكثر، رأى مدير دائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه في لقاء صحافي افتراضي نهاية الأسبوع الماضي، أن “القوى السياسية تتصرف وكأنها تملك الوقت، فيما الواقع يدلّ على عكس ذلك تماماً. فالاقتصاد في حال انكماش قد تتخطّى نسبته 14% عام 2021، وهي نسبة استندت على مؤشرات سُجِّلَت في تشرين الأول 2020. لكن ازدادت الامور سوءاً منذ ذلك الوقت”.
ثالثا- سمعة لبنان السياسية. فاذا اعتقدت المنظومة السياسية المعادية لسلامة انها ستكون في منأى عما ارتكبته في حقه، باعتبارها ان المعركة هي شأن محلي، فهي مخطئة، الا ان ارادت باريس، وعبر مبادرتها المتناقضة ما بين السياسة والاقتصاد، تحمّل وزر الانهيار اللبناني بدل الانقاذ. اذ ان المفاعيل المباشرة سترتد سريعا وتحمّل هذه المنظومة فشل لبنان حتى في كشف ملابسات جريمة انفجار مرفأ بيروت، نتيجة الانقسامات السياسية وطبيعة النظام القائم على المحاصصة ومنطق التسويات، وهذا ما حال على مرّ الأعوام دون بناء دولة فعليّة. لبنان دولة فاشلة في مئويتها الأولى، اعلان يُوصّف وضع دولة محكومة بين عجز اقتصادي وشلل سياسي. ولا استقامة للاقتصاد الا باستعادة السلطة لسيادتها وقرارها المستقل، إضافة الى استعادة الثقة الداخلية والخارجية.
رياض سلامة في مرمى الضغوط مجددا، لكنه ليس قلقا حيال سير الجلسات القانونية التي عُقد أولها في بيروت وستُستكمل في برن، حيث سيعيد نفي كل المزاعم والادعاءات التي طالته ويقدم كل ما يملك من وثائق قطعا لسيل شائعات احتفظ لنفسه بحق الادعاء على مطلقيها. لكن، ماذا لو تمردّت لديه مشاعر الكرامة على قدسية المسؤوليات، وقرّر الاستقالة من الحاكمية؟ ماذا لو حكى ما يستره في زحمة أسراره؟
خيار في قلب الاهداف، لكن حتما بعيد عن درس التداعيات التي سيترجمها انهيار غير مسقوف لليرة، واتساع دوائر الفوضى المصرفية، وتدهور القدرة الشرائية في موازاة ارتفاع منحنى التضخم الى مستويات متفلتة. كل ذلك وسط قصور سياسي عن إيجاد صيغة قادرة على انتاج دولة قانون ومؤسسات فعليّة..
لبنان وسط مرحلة حبلى بالتطورات. فهل يعود الرشد الى عقاله ويقفل أبواب جهنم؟
مواضيع ذات صلة :
بوريل يزور بيروت اليوم | “تجدد”: لابقاء بيروت بمنأى عن الخطر | تصعيد بري وجوي كبير في جنوب لبنان.. وعمليات تفجير المنازل تتواصل |