المطران عودة عن النوّاب: ألا يخجلون من تقاعسهم وتردُّدهم وضياعهم؟
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الاورثوذوكس المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
وبعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عظة سأل فيها النواب: ألا يخجلون من تقاعسهم وترددهم وضياعهم؟ معتبرا أن “البلدان الصديقة تبحث عن حل لانتخاب رئيس، ومجلس النواب مستقيل من واجبه. أليس هذا مسا بكرامة المجلس سيد نفسه؟”.
وجاء في عظة قداس الأحد: “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور.
أحبائي، لقد خصصت كنيستنا المقدسة هذا الأحد لحادثة شفاء المخلع الذي طرح عليه المسيح سؤالا ربما نستغرب طرحه على شخص كسيح منذ ثمان وثلاثين سنة. سأل الرب المخلع إن كان يريد أن يبرأ من مرضه. وماذا يريد المريض غير الشفاء والنهوض من سريره؟ لكن هذا السؤال يحمل بعدا آخر، ويدل على الحرية الكاملة التي يمنحها الله لأحبائه. حتى المرضى لا يشفيهم الرب من دون إرادتهم. هذا ما يحدث أيضا مع النفوس المريضة بالخطايا. الرب لا يجبر أحدا على التوبة والرجوع إليه، مع أنه يشاء خلاص الجميع.
مرض الخطيئة لا يشفى قسرا، وإلا فإن التوبة لا تكون حقيقية. أهم عنصر في الشفاء، من أمراض النفس كما الجسد، هو أن يتم بإرادة الشخص الحرة، لأن هذا العنصر يساعد في الشفاء العاجل”.
واضاف: “جاء الرب إلى بركة «بيت حسدا»، أي «مكان الرحمة»، وهي تملك خمسة أروقة. تلك الأروقة الخمسة ترمز إلى الناموس، الذي يحتاج تطبيقه الحقيقي إلى الرحمة، الأمر الذي عايناه في شتى مواضع الكتاب المقدس، كفي مثل السامري الشفوق، حيث كان يفترض بحفظة الناموس أن يرحموا الرجل الذي وقع بين اللصوص، إلا أنهم لم يتحلوا بالرحمة اللازمة، فظهروا غير أمناء لوصية الرب القائل: «إذهبوا وتعلموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة».
بركة «الرحمة» فضحت قسوة قلوب البشر. إن صورة الجموع المريضة حول البركة هي صورة العالم الذي نحيا فيه، حيث يسعى كل واحد وراء مصالحه الخاصة ولا يبالي بإخوته البشر، بل قد يحاول إيذاءهم من أجل مصلحته”.
وتابع: “لقد اختارت الكنيسة هذا النص الإنجيلي ليقرأ في الزمن الفصحي، لأن الباحثين ارتأوا أن حادثة شفاء المخلع قد تمت في عيد الفصح اليهودي، إذ يقول الإنجيلي يوحنا: «وبعد هذا كان عيد لليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم» (يو 5: 1). هنا، نستطيع أن نقارن بين كيفية تصرف البشر بلا رحمة، في عيد الفصح، مع أخيهم المساوي لهم في البشرية، وكيفية تصرف الله برحمة تامة مع البشر الذين خلقهم وعصوه فلم «يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين» (رو 8: 32). والرب يسوع هو الرحوم الذي حمل أسقامنا وشفى أمراضنا، وتجسد ليفتدينا ويخلصنا من عبء خطايانا. ألم يكن عمله الخلاصي على الصليب عمل رحمة مجانية تجاه البشر؟
شفاء المخلع يحمل في طياته نفحة فصحية، الأمر الذي نعيشه في المعمودية، حين نغطس في جرن الماء لكي نقوم مع المسيح بحلة جديدة، فنعمل طيلة حياتنا بهدي كلمة الرب المليئة بالمحبة والرحمة.
تحريك مياه البركة، بحسب الآباء القديسين، يمثل المياه الجارية المتحركة التي كان الناس يعتمدون فيها على يد يوحنا المعمدان. كذلك من يسقط في زلة، وتخلعه الخطيئة بسبب عدم حفظه للناموس وتطبيقه في سلوكه مع إخوته البشر، تقيمه الكنيسة من هذا التخلع عبر التوبة والإعتراف. هذه الأمور تسلمتها الكنيسة من الرب الرحوم والشفوق والمحب البشر، الذي «يشاء أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4)”.
مخلع إنجيل اليوم انتظر الرب زمانا طويلا ولم ييأس. إنه يمثل إسرائيل الذي ظل تائها في البرية لثمان وثلاثين سنة كما جاء في سفر تثنية الإشتراع (تث 2: 14)، كما يرمز إلى كل البشرية التي شلتها الخطيئة قبل مجيء المسيح، وقد عجز الناموس والأنبياء عن إنقاذها، حتى جاءها مخلص العالم”.
وقال عودة: “تحمل كلمات المخلع: «ليس لي إنسان متى حرك الماء يلقيني في البركة»، إدانة للبشر بسبب الأنانية والانحصار في الذات، وعدم الاهتمام بالآخر. تحمل إدانة للقسوة وانعدام المحبة وعدم الرحمة، إدانة للأقوياء الذين يسحقون الضعفاء، إدانة للظلم والمحاباة والتمييز (يع 2: 13،1؛ 5: 15)، وإدانة لبعض الأغنياء الذين يمتلكون أكثر مما يحتاجون. إلههم الفعلي هو الغنى لذلك يكدسون إلى المال، كل ما هو غالي الثمن لكنه عرضة للفساد، إنهم أشبه بالعميان لأنهم لا يرون الفقير والمحتاج والمتألم، وقد يكونون كسبوا معظم غناهم بظلم عمالهم ولم يسمعوا صراخهم. لقد قال المخلع هذه الكلمات باسم الكثيرين في كل زمان ومكان، الذين يفتقدون من يعيلهم، من الأهل والأصدقاء، في ظروف الضعف والمرض وتقدم السن. ألا يتكلم باسم شعبنا الذي يتساءل: «أين المسؤولون»؟ لبنان الذي كان في فترات طويلة سندا للكثيرين، يقبع، منذ عقود، تحت نير الحروب الدموية والسياسية والإقتصادية وغيرها من وسائل القهر والذل، ولم يوجد من يساهم في إعطاء لبنان وشعبه جرعة من الرحمة، عوض الإمعان في الظلم وعدم المحبة. اليوم، لبنان يحمل أكثر من طاقته، فهو البلد المضياف الذي تستغل الأمم سعة قلبه، وحسن ضيافته، فتجعله يحتمل الأثقال والأتعاب بدلا من بلسمة جراحه، التي لم يكن آخرها تفجير العاصمة، هذا الجرح الذي لم يندمل بعد، لأن بلدنا الحبيب أصيب بجراحات أخرى أثخنت جسده المرهق والمخلع منذ عقود. فقد استغل من توالوا على السلطة خيرات لبنان، وأهملوا أهله، وتقاعسوا عن إنمائه ثم عن إنقاذه. لهذا، رجاؤنا أن يرحم لبنان، أن يتحرك المسؤولون فيه، والنواب بخاصة، من أجل إنقاذه. ألا يخجلون من تقاعسهم؟ ومن ترددهم وضياعهم؟ البلدان الصديقة تبحث عن حل لانتخاب رئيس، ومجلس النواب مستقيل من واجبه. أليس هذا مسا بكرامة المجلس سيد نفسه؟”.
وختم العظة قائلا: “لو لم يكن الله راحمنا، لما كان جزء كبير من الشعب ما زال صامدا ومنتظرا الخلاص والأيام الحاملة فرح القيام من تحت الركام.
لذلك دعوتنا اليوم أن نعود إلى ربنا بمحض إرادتنا، وألا ننتظر أحدا ليساعدنا في ذلك، بل أن نتجه بعزم ثابت نحو التوبة كي نحول فراش خطيئتنا من فراش مرض، إلى عرش توبة ورحمة ومحبة، ونسمع: «ها قد عوفيت فلا تعد تخطئ بعد».
بارك الله حياتكم، وجعلكم من مطيعي كلمته، ومن حافظي وصاياه، ومن مطبقيها المحبين والراحمين لجميع البشر، آمين”.