جهود للتخفيف من تداعيات “حرب الإستنزاف” على الخطوط المالية والنقدية بين لبنان والخارج
تحتفظ السياسات المتشددة لإدارة السيولة النقدية التي ينفذها البنك المركزي اللبناني بحصانة ملحوظة في صدّ المضاربات على العملة الوطنية، رغم قتامة الأوضاع العامة في الداخل، والمخاوف المتصاعدة من توسع المواجهات العسكرية المتركزة على الحدود الجنوبية، التي أدت إلى خسارة محققة لتدفقات وازنة بالعملات الصعبة، نظراً إلى الانكماش الحاد لأنشطة القطاع السياحي في ذروة الموسم الصيفي.
إذ أدت التداعيات السلبية الناجمة عن الصراع في غزة، والقتال الدائر على الحدود الجنوبية للبنان، إلى جانب الضغوط الناتجة عن أزمة اللاجئين، إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي أصلاً ، في حين أن الآفاق الاقتصادية غير واضحة إلى حد كبير.
وعلى الرغم من إحراز بعض التقدم في خفض التضخم واستقرار سعر الصرف، بدعم من قرار مصرف لبنان بإنهاء كل من التمويل النقدي وسياسة دعم النقد الأجنبي وكذلك القضاء على العجز المالي، فإن هذه الإصلاحات غير كافية لتحقيق التعافي. إذ تعتبر الإصلاحات الاقتصادية ضرورية لتحقيق تعافي قوي ومستدام ولجذب استثمارات جديدة ودعم مالي دولي.
فقد وصلت البطالة والفقر إلى مستويات مرتفعة بشكل استثنائي، وقد تعطل تقديم الخدمات العامة الحيوية بشدة .في الوقت نفسه، لا يزال لبنان يعاني من استضافة أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة لعدد السكان في العالم، وسط موارد محدودة.
كما إن التداعيات السلبية الناجمة عن الصراع في غزة وتزايد القتال على الحدود الجنوبية للبنان تؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الضعيف أساساً. وقد نتج عن ذلك نزوح داخلي لعدد كبير من الأشخاص كما تسبب بأضرار في البنية التحتية والزراعة والتجارة في جنوب لبنان. إلى جانب تراجع السياحة، فإن المخاطر العالية المرتبطة بالصراع تخلق قدرًا كبيرًا من عدم اليقين للآفاق الاقتصادية.
على المقلب الآخر لقد تم إحراز بعض التقدم في الإصلاحات النقدية والمالية إذ ساعدت تدابير السياسة التي اتخذتها وزارة المالية ومصرف لبنان – بما في ذلك الإلغاء التدريجي للتمويل النقدي للموازنة، وإلغاء منصة صيرفة والسياسة المالية المتشددة، والخطوات نحو توحيد أسعار الصرف – على احتواء تدهور سعر الصرف، واستقرار العرض النقدي وبدأت في الحد من الضغوط التضخمية.
كما أتاحت الجهود المشتركة التي بذلها مصرف لبنان ووزارة المالية إلى تراكم بعض الاحتياطيات الأجنبية. ومع ذلك، فإن هذه التدابير السياسية لا ترقى إلى ما هو مطلوب لتمكين التعافي من الأزمة حيث لم تتمكن الحكومة والبرلمان من إيجاد حل للأزمة المصرفية. وبدون إحراز تقدم، سيستمر الاقتصاد النقدي والاقتصاد غير النظامي في النمو، مما يثير مخاوف تنظيمية ورقابية كبيرة.
ولكن هناك حاجة إلى بذل جهود أقوى لتعزيز المالية العامة. ولا تزال إدارة الضرائب تعاني من نقص التمويل، مما يعيق تحصيل الضرائب ويضع دافعي الضرائب في القطاع النظامي في وضع غير مؤات. ويحول نقص الموارد إلى عدم توفير الخدمات العامة الأساسية والبرامج الاجتماعية والإنفاق الرأسمالي. كما أنه يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة ويؤثر سلبا على تصورات العدالة الضريبية.
وبالنظر إلى المستقبل، ومع الأخذ بعين الاعتبار النقص المحتمل في أي تمويل، ينبغي أن تستمر موازنة 2025 في استهداف العجز الصفري من خلال إصلاحات مالية أكثر طموحا، لا سيما زيادة تعزيز تعبئة الإيرادات من خلال تعزيز الامتثال وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحالي لتلبية الاحتياجات الاجتماعية واحتياجات البنية التحتية الأساسية.
من جهة أخرى إن التقدم المحرز في الإصلاحات الأساسية الأخرى، بما في ذلك الحوكمة والشفافية والمساءلة، لا يزال محدودا. حيث إن مصرف لبنان بصدد البدء في اتخاذ خطوات لتعزيز الرقابة الداخلية والحوكمة. في نفس الوقت، هناك حاجة ماسة أيضاً إلى اتخاذ تدابير لزيادة الشفافية في القطاع العام، بما في ذلك البيانات المالية المدققة للمؤسسات العامة، فضلا عن إصلاحات المؤسسات العامة على نطاق أوسع. علاوة على ذلك، فإن نقاط الضعف في جودة البيانات الاقتصادية وتوافرها وتوقيتها تشكل تحديات أمام صنع السياسات المستنيرة.
وتتركز جهود السلطة النقدية في هذه المرحلة الحرجة، حسب مصادر مصرفية معنية ومتابعة، على عزل خطوط تواصل القطاع المالي مع الخارج عن أي مستجدات، حربية كانت أو مهنية، لا سيما مع شبكة البنوك العالمية المراسلة، توخياً لمنع الانزلاق إلى ارتباكات مؤذية تصيب حركة التحويلات المالية عبر الحدود، ويتمدّد ضررها الأقسى إلى منظومة الاستيراد والتصدير وخطوط الإمداد بالمواد الأساسية والمحروقات وسواها.
ووفق المعلومات المتقاطعة في أوساط القطاع المالي، فإن مسؤولين في الحكومة وحاكمية البنك المركزي يبادرون إلى نقل الصورة الواقعية إلى من يعنيهم الأمر داخلياً وخارجياً، ويركزون بالأخص على ضرورات الأخذ في الاعتبار والتقييم لأحوال البلد الاستثنائية، وما ينجم عنها من تداعيات في إدارة القرارات الاقتصادية، سواء بسبب المستجدات المرتبطة بالأعمال الحربية المتواصلة على مدار يقترب من ختام عام كامل، أو تلك الناتجة بالأساس عن انفجار الأزمات النقدية والمالية، وكارثة انفجار مرفأ بيروت، واستطراداً، واقع الخلل المشهود في إدارة الدولة وحضورها جراء الفراغات الدستورية وشلل الإدارات العامة وعدم انتظام المؤسسات.
وبالنتيجة، لم يتردد الحاكم بالإنابة وسيم منصوري في الإفصاح بـ”أننا نجحنا في شراء الوقت، لكننا نخشى استنفاد كل المهل ما لم نستجب لبعض المتطلبات الأساسية التي تطمئن نسبياً الهيئات الإقليمية والدولية”.
واستتباعاً، فإن هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها منصوري تواظب على تزويد المجموعتين الدولية والإقليمية بالوثائق والمستندات ذات الصلة بمعالجة أوجه القصور، لا سيما المحقق بينها لجهة إصدار القرارات الخاصة بتجميد حسابات عائدة لمسؤولين كبار سابقين وحاليين في قطاعات مدنية وغير مدنية، والمنشود تحقيقه وفق جداول زمنية محددة بالتعاون مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن موجبات تطوير إجراءات الاستجابة لدى القضاء والمحاكم وكتاب العدل وسواهم من مكونات السلطة القضائية.
مواضيع ذات صلة :
أسعار النفط تتراجع! |