بيروت تنزع عباءة الميليشيات: “تنظيف الصور” أولى خطوات الدولة على طريق استعادة هيبتها

في عاصمةٍ كانت تحوّلت شوارعها إلى خرائط نفوذ حزبي لا إلى فضاءٍ عام مشترك، تأتي خطوة الحكومة اللبنانية بنزع الصور والشعارات والأعلام الحزبية لتبدو أشبه بانتفاضة رسمية على سنوات من الرضوخ، وربما – في أحسن الأحوال – كمحاولة متأخرة لغسل وجه الدولة بماءٍ عكر.
فهل تكفي إزالة صور القادة لتعود هيبة الدولة؟ وهل تنتزع بيروت استقلالها الرمزي من قبضة الميليشيات بمجرد إعادة الطلاء إلى جدرانها؟
هذا القرار ليس مجرد إجراء تجميلي كما يُراد له أن يُسوّق. إنه في عمقه، إقرار ضمني بأن بيروت لم تكن يومًا مدينةً تحت سلطة الدولة، بل ساحةً تُقسمها صور الزعماء و”المقدّسات الحزبية”. وإذا كانت هذه الخطوة تُنفَّذ اليوم في وضح النهار، فذلك لأن القرار السياسي – الذي طالما غاب – قد وُلد أخيراً، لا لشيء، سوى لأن لبنان اليوم يختبر “عهدًا جديدًا” في خريطة السلطة، يقوده رئيسٌ يتقن لغة المؤسسة أكثر من لغة التسوية.
منذ الساعات الأولى من صباح أمس الأربعاء، بدأت بيروت تنفض عن شوارعها غبار سنوات من الفوضى البصرية والسياسية، بعد أن انطلقت عملية إزالة الأعلام والصور والشعارات الحزبية من مختلف الشوارع والأحياء، وصولًا إلى طريق مطار رفيق الحريري الدولي، بتوجيه من وزير الداخلية أحمد الحجار ومحافظ بيروت القاضي مروان عبود، وبدعم مباشر من رئيس الحكومة نوّاف سلام. وقد أشرفت على التنفيذ بلدية بيروت بمؤازرة وحدة شرطة بيروت في قوى الأمن الداخلي، كما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” في تقريرها المفصّل.
ويشير وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجّار، في حديث لـ “هنا لبنان”، الى أنّ إزالة الصور والشعارات يأتي ضمن خطةٍ شاملةٍ هدفها تنشيط السياحة في لبنان وتحسين صورته تجاه الوافدين سواء أكانوا لبنانيين أم غيْر لبنانيين بدءًا من المطار وصولًا الى وسط بيروت”، ويقول: “بدأنا في المطار بمسألة الأمن وزيادة “الكونتوارات” وتعزيز الإجراءات الأمنية”. وأوضح الحجّار “أنّ شركة “خطيب وعلمي” أجرت دراسةً كاملةً لطريق المطار هدفها القيام بأعمال تزفيت الطرقات وتخطيطها وإصلاح الأرصفة وإنارة الطرقات ومن ضمنِها نزع اللافتات التي لا تحوز على تراخيص. وتأتي الخطة ضمن شقّيْن، الأول في نطاق عمل محافظة بيروت والثاني ضمن محافظة جبل لبنان، وقد كلّفنا المحافظيْن كلّ حسب نطاقِه أن يتولّى تنفيذ بنود الخطة، وما حصل في بيروت من نزع لافتات يأتي في هذا الإطار وهو قرارٌ اتّخذ بعد متابعات واجتماعات وتحضيرات بدأناها منذ تولّينا الوزارة”.
من التفاهم إلى التنفيذ
الأحزاب كافة، بما فيها “حزب الله” وحركة “أمل”، أبدت تفهّمها للقرار، وفق ما أعلنه محافظ بيروت، الذي أضاف: “هناك قرار أن يكون المطار وطريقه والعاصمة الصورة المعبّرة عن الدولة اللبنانية والعهد الجديد، وأن يكون طريق المطار آمنًا وبعهدة الدولة ومؤسساتها الشرعية، لا تحت تأثير أي طرف آخر”.
وقد استُكملت هذه الخطوة بإجراءات أمنية وتجميلية واسعة على طريق المطار، في إطار مشروع أطلقه رئيس الحكومة نوّاف سلام، هدفه ليس فقط تجميل الطريق بل تعزيز الأمن فيه. وزير النقل فايز رسامني شدّد على أن “مشروع تطوير طريق المطار لا يقل أهمية عن تطوير المطار نفسه”.
حرق الصور… وردّ الدولة
وفي الأيام التي سبقت العملية، أقدم مجهولون على إحراق لوحات إعلانية كتب عليها “عهد جديد للبنان”، في إشارة إلى العهد الرئاسي بقيادة الرئيس جوزاف عون. هذه اللوحات كانت قد حلّت مكان صور قادة من “حزب الله” اغتالتهم إسرائيل، وصور المرشد الإيراني علي خامنئي، ما يفتح باب التساؤلات عن هوية الفاعلين وأهدافهم. غير أن الدولة لم تتراجع، بل واصلت العملية بوتيرة سريعة ومنظّمة.
لا استثناءات حتى للإعلانات التجارية
محافظ بيروت أوضح أن التعليمات تشمل أيضًا إزالة الإعلانات التجارية الموضوعة على أملاك الدولة، في خطوةٍ تهدف إلى تحرير الفضاء العام بكل أشكاله من أي مظاهر احتلال بصري، سواء حزبي أو تجاري، مؤكدًا أن الهدف هو “أن تكون بيروت بحلّة جديدة، أي حلّة الفرح التي تحميها الدولة”، ومشيرًا إلى أن “مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وها نحن بدأنا خطوة كبيرة”.
ويتوقع أن تنتهي عملية تنظيف طريق المطار من كل الشعارات خلال أسبوع أو عشرة أيام، على أن يُستكمل العمل في شوارع وأحياء العاصمة كافة.
رمزية الطريق… وسؤال الدولة
طريق المطار لم يكن يومًا مجرد مدخل إلى بيروت، بل كان منذ سنوات طويلة مساحةً مشحونة بالرمزية السياسية والأمنية. فإلى جانب صوره، لطالما اعتُبر هذا الطريق ممرًا تحت النفوذ الفعلي لحزب الله، إلى درجة أن مسؤولين وسفراء أجانب تحدثوا عنه صراحة كمجالٍ غير خاضع تمامًا للدولة. وعليه، فإنّ إعادة هذا الطريق إلى عهدة الشرعية، بصريًا وأمنيًا، ليست مجرد خطوة تجميلية، بل اختبار أول لمشروع استعادة الدولة لمفاصلها.
هل من سابقة؟ ولماذا الآن؟
لطالما كانت محاولات إزالة الشعارات الحزبية تصطدم بمعضلة التوازنات الطائفية والسياسية، ما يجعل هذه الخطوة غير مسبوقة من حيث شموليتها وسرعتها، وخصوصًا أنها تتم من دون اعتراضات تُذكر.
مصدر أمني كشف لـ”الشرق الأوسط” أن “الخطة تسير بنجاح تام، ولم تحصل أي حالة اعتراضية عليها”، مؤكدًا أن “الأجهزة الأمنية تنفذ القرار السياسي ولا مجال لمراعاة أي طرف أو استثناء أي حي”.
الإضاءة… والمازوت… والعودة إلى الدولة
ما يعطي العملية بُعدًا أعمق هو تزامنها مع تحسن في خدمات العاصمة، وخصوصًا في مسألة الإنارة.
فبحسب محافظ بيروت: “كنّا قبل أشهر نستجدي المازوت لتشغيل المطار، أما اليوم فانتقلنا إلى وصل المطار بوسط المدينة وإنارة الطريق منه إلى العاصمة”، في مؤشر إلى عودة تدريجية لسلطة الدولة على المرافق العامة.
بدأ زمن الجمهورية الثالثة؟
ما يجري اليوم قد يكون أكثر من حملة تنظيف للشوارع. إنه إعلان نوايا سياسي وإداري بأنّ لبنان يدخل مرحلة جديدة، يصفها البعض بـ”الجمهورية الثالثة” التي يحاول عهد الرئيس جوزاف عون ترسيخها، على أنقاض جمهورية الشعارات والفوضى.
الطريق طويل، ولكن الخطوة بدأت. والمشهد الجديد للعاصمة هو بمثابة اختبار أولي، ليس فقط لعهد رئاسي جديد، بل لفكرة الدولة نفسها في لبنان.