زيارة صقر غباش إلى بعبدا: دبلوماسية الانفتاح وعُقد السيادة اللبنانية

شكلت زيارة رئيس المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة، صقر غباش، إلى قصر بعبدا، حدثاً يحمل أبعاداً دبلوماسية وسياسية لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي والدولي الذي تعيشه البلاد. الزيارة، بقدر ما كانت بروتوكولية، أتت في توقيت بالغ الدقة، حيث يبحث لبنان عن نوافذ دعم حقيقي، ويعيد ترتيب أولوياته الداخلية والخارجية.
عودة الحرارة إلى العلاقات اللبنانية-الإماراتية
استقبال رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون للوفد الإماراتي كان بمثابة إعادة تأكيد على عمق العلاقات بين البلدين، ورغبة في إعادة مدّ الجسور مع الخليج العربي. ونقل صقر غباش تحيات رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، مشدداً على محبة القيادة الإماراتية للبنان ودعمه في مسيرته نحو إعادة بناء الدولة. وقد حرص على الإشارة إلى أن ما تحقق حتى الآن من خطوات إصلاحية في لبنان يُعد إنجازاً قياساً بالزمن والتحديات.
رسالة غباش لم تكن مجرد تحية دبلوماسية، بل تضمنت إشارات واضحة إلى دعم لبنان في مرحلة التحول، واعترافاً بخصوصيته الثقافية والسياسية. وفي المقابل، عبر الرئيس عون عن رغبة لبنان في طي صفحة التباعد السابق مع الإمارات، داعياً إلى عودة التواصل والتعاون، ومعبراً عن امتنان اللبنانيين للاحتضان الإماراتي لجاليتهم.
بين الحوار والسلاح: عقدة الدولة اللبنانية
بعيداً عن المجاملات البروتوكولية، لاحت من خلف التصريحات الرسمية ملامح ملف شائك لا يمكن تجاهله: مسألة حصر السلاح بيد الدولة. الرئيس عون، وفي أكثر من محطة خلال اللقاء، شدد على أهمية الأمن والقضاء كمفاتيح للانتقال إلى دولة المؤسسات، مشيراً إلى أنّ الحوار هو السبيل الوحيد لحل أي إشكالية داخلية، بما في ذلك ملف سلاح حزب الله.
في هذا الإطار، تشير مصادر مطلعة لجريدة “الأنباء” إلى أنّ رئيس الجمهورية يسعى إلى طرح معادلة جديدة للحوار الداخلي، تقوم على الفصل بين المسارات السياسية والأمنية، وعلى إرساء مناخ توافقي لا يقود إلى مواجهة، بل إلى تفاهم تدريجي حول مسألة السيادة والسلاح.
اللافت أن زيارة الغباش جاءت بعد أيام فقط على استدعاء السفير الإيراني في بيروت من قبل الخارجية اللبنانية، على خلفية تصريحات حول سلاح حزب الله، اعتُبرت تدخلاً في الشأن الداخلي اللبناني. ما يشير إلى وجود نية لبنانية واضحة لفتح هذا الملف الشائك، ولكن تحت سقف لبناني صرف، وبخطاب يحاول التوازن بين الواقع السياسي والضغوط الدولية.
البُعد الإقليمي: رياح التغيير من الخليج إلى لبنان
لا يمكن قراءة زيارة الغباش إلى بيروت من دون الإشارة إلى التحولات في المشهد الخليجي تجاه لبنان. فبعد سنوات من التوتر والقطيعة، بدأت إشارات الانفتاح تلوح، ولو بحذر. الإمارات، كما السعودية، تتعامل مع الوضع اللبناني من زاوية الفرصة والقلق في آن معاً: فرصة دعم لبنان وإعادته إلى محيطه العربي، وقلق من عدم قدرة الدولة على ضبط التوازنات الداخلية، لا سيما في ما يخص السلاح والعلاقات مع طهران.
من هنا، يبرز التحدي الأكبر أمام الرئاسة اللبنانية: كيف يمكن للبنان أن يحافظ على استقلاليته في القرار، ويعيد ترتيب علاقاته العربية، من دون أن يصطدم بالواقع الداخلي المأزوم، أو أن يظهر كمن يساير الخارج على حساب الداخل؟
الداخل اللبناني: اختبار للحكومة ومؤسسات الدولة
صقر غباش لم يخفِ إعجابه بخطاب القسم الذي ألقاه الرئيس عون، معتبراً أنه وثيقة مكملة للدستور واتفاق الطائف، ومؤشراً إلى عهد جديد يضع دولة القانون والمؤسسات كأولوية. هذه الإشادة تعكس بوضوح ما ينتظره المجتمع الدولي والعربي من لبنان: أداء إصلاحي، واستقرار سياسي وأمني، وتوجه واضح نحو معالجة الملفات الكبرى بالحوار لا بالمواجهة.
في الوقت نفسه، فإن التحديات لا تزال هائلة. من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، إلى الانهيار المالي والشلل القضائي، وصولاً إلى التحديات الحدودية والتهريب والعلاقة المعقدة مع النظام السوري، كل هذه الملفات تتطلب أكثر من خطاب حسن نية. إنها تتطلب برنامج عمل واضحاً، ومواقف جريئة، وإرادة جامعة.
الإمارات ولبنان: من الدعم الاقتصادي إلى التوازن السياسي
لم تكن الإمارات يوماً بعيدة عن الساحة اللبنانية. ففي أكثر من مرحلة مفصلية، كانت من أوائل الدول الداعمة، سواء عبر الاستثمارات، أو عبر احتضان مئات آلاف اللبنانيين الذين ساهموا في نهضتها. اليوم، تعود الإمارات لتؤكد التزامها الأخلاقي والسياسي تجاه لبنان، ولكن بلغة أكثر واقعية، مبنية على الإنجازات والحوكمة الجيدة.
زيارة غباش جاءت لتطرح سؤالاً محورياً: هل يستطيع لبنان أن يقدم نفسه مجدداً كشريك عربي موثوق؟ هل يستطيع أن يعيد صياغة موقعه الاستراتيجي من دون أن يكون ساحة صراع أو منصة لتجاذبات المحاور؟