لبنان تحت العاصفة: غبار خانق وجفاف يهددان الأمن الغذائي

يُقبل لبنان على فصل صيف استثنائي، تحاصره تقلبات مناخية عنيفة وأزمة مائية آخذة في التصاعد. العاصفة الرملية، التي تجتاح البلاد برياحها الشديدة وغبارها الكثيف، ليست سوى واحدة من تجليات اضطراب جوي واسع النطاق، مصدره المناطق الصحراوية الواقعة بين شرق إفريقيا وشبه الجزيرة العربية. هذا الاضطراب أدى إلى اندفاع كتل هوائية حارة نحو شرق المتوسط، لترتفع درجات الحرارة بشكل غير اعتيادي، وتزيد معها وطأة الجفاف الذي يهدد الأمن الغذائي والموارد المائية في لبنان.
موجة حر وغبار خانق
اليوم، يعيش اللبنانيون تحت تأثير رياح جنوبية قوية، تحمل معها غبارًا كثيفًا وحرارة مرتفعة، خصوصًا في المناطق الداخلية الجنوبية والبقاعية. فقد سجلت درجات الحرارة على الساحل ما بين 22 و33 درجة مئوية، بينما لامست 32 درجة في البقاع، وسط أجواء مغبرة ورؤية ضعيفة بسبب كثافة الغبار في الجو، ما دفع وزارة الصحة إلى إصدار تحذيرات وقائية تحث على عدم الخروج إلا للضرورة.
الطقس غير المستقر هذا، الذي يتوقع أن ينحسر تدريجياً بحلول الخميس، ليس مجرد ظاهرة مناخية عابرة، بل مؤشر واضح على أنّ التغير المناخي بدأ يفرض واقعًا جديدًا أكثر قسوة، لا سيما في بلد يعاني أساسًا من بنية تحتية هشة على الصعيد البيئي.
أزمة المياه: جفاف يهدد الزراعة والصحة العامة
في موازاة العاصفة الترابية، يتعمّق التحدي الأكبر المتمثل بأزمة المياه. فقد أظهرت بيانات رسمية أن معدل الأمطار في لبنان هذا العام انخفض بنسبة 50% مقارنة بالمعدلات السنوية المعتادة. هذا التراجع الحاد ترك أثرًا مدمّرًا على المياه الجوفية ومخزون البرك الزراعية، ووضع آلاف المزارعين أمام واقع مأساوي ينذر بفشل الموسم الزراعي بأكمله.
فالحقول التي كانت في السابق مكسوة بالخضرة بدأت تتحول بسرعة إلى أراضٍ جافة، وسط عجز المزارعين عن توفير مياه كافية لري محاصيلهم. ومع غياب حلول طارئة فعالة، بدأ بعضهم يلجأ إلى استخدام مصادر مياه غير آمنة، كالصرف الصحي أو الآبار الملوثة، ما يعرض الأمن الغذائي وصحة المواطنين إلى أخطار جسيمة.
مخاطر مضاعفة تهدد الصحة والسلامة البيئية
استخدام المياه الملوثة في الري لا يقتصر خطره على نوعية المحاصيل، بل يتعدى ذلك إلى تهديد مباشر للصحة العامة. فالمياه غير المعالجة قد تحتوي على معادن ثقيلة وبكتيريا وفيروسات خطيرة قد تتسرب إلى المنتجات الزراعية، مسببة أمراضاً منقولة بالغذاء. وهذا التلوث لا يزول بسهولة، بل يتراكم في التربة، مسببًا تراجعًا طويل الأمد في خصوبتها.
في هذا السياق، وجهت وزارة الصحة تحذيرات واضحة خلال العاصفة الترابية، دعت فيها الفئات الأكثر عرضة – الأطفال، الحوامل، كبار السن، والمصابين بأمراض تنفسية – إلى البقاء داخل المنازل، كما أوصت باستخدام الكمامات عند الخروج، وشرب كميات كافية من المياه للحفاظ على ترطيب الجسم، في ظل موجة الحر والغبار.
الزراعة اللبنانية على شفير الانهيار
الوضع الزراعي في لبنان أصبح الآن في معركة بقاء. فالمزارعون، المثقلون أساسًا بتكاليف تشغيلية باهظة نتيجة الأزمة الاقتصادية، يجدون أنفسهم عاجزين عن الصمود في وجه تراجع الإنتاجية وتهديد المحاصيل بالجفاف. وبحسب شهادات من سهل البقاع، المنطقة الزراعية الأهم في البلاد، فإن “الموسم كله مهدد بالضياع”، ما يعني خسائر فادحة في دخل الأسر الريفية، وتهديدًا حقيقيًا لسلاسل الإمداد الغذائي في السوق اللبنانية.
هذا الواقع الكارثي، إذا تُرك من دون معالجة، يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، زيادة البطالة في الأرياف، وتفاقم الفقر والهجرة الداخلية، مما يُضاعف من الأزمات الاجتماعية التي يعيشها لبنان منذ سنوات.
حلول جزئية وخطط غائبة
أمام هذه التحديات، تبدو إجراءات الدولة خجولة. فوزارة الزراعة تحاول تعميم استخدام أنظمة ري حديثة مثل التنقيط، وتدعو إلى ترشيد استهلاك المياه، لكن هذه الخطوات تبقى محدودة الأثر أمام الأزمة المتعددة الأوجه.
البلاد بحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة، تبدأ بتطوير بنى تحتية لتجميع مياه الأمطار في مواسم الشتاء، مرورًا ببناء خزانات مائية ضخمة لاستخدامها خلال فترات الجفاف، وانتهاءً بإعادة النظر في السياسات الزراعية وتشجيع المحاصيل القادرة على التكيف مع المناخ الجاف.
الحاجة إلى تعبئة وطنية
إن لبنان اليوم بحاجة إلى ما هو أكثر من التدخلات الطارئة؛ هو بحاجة إلى تعبئة وطنية شاملة تبدأ من أعلى المستويات السياسية، وتُشرك المجتمع المدني والقطاع الخاص والخبراء البيئيين. فالحفاظ على الأمن الغذائي والمائي هو أولوية لا تقل أهمية عن أي ملف اقتصادي أو سياسي آخر، بل هو في صلب استقرار البلد ومناعته.
كما أن مسؤولية المواطن في هذا السياق لا تقل أهمية، بدءًا من ترشيد استهلاك المياه، والابتعاد عن السلوكيات التي تهدر هذه الثروة الحيوية، وصولاً إلى الضغط على المسؤولين لاتخاذ خطوات عملية مستدامة.
هل من نافذة أمل؟
السؤال الذي يُطرح اليوم بإلحاح: هل لا يزال هناك وقت للإنقاذ؟ الجواب يتوقف على سرعة التحرك وفعالية الخطط التي سيتم اعتمادها. التغير المناخي ليس حدثًا طارئًا بل مسار طويل الأمد سيزداد حدة، وبالتالي فإن أي تأخير في المواجهة قد يعني الدخول في مرحلة جفاف مزمن، لا خروج منها بسهولة.
في المحصلة، ما يشهده لبنان ليس مجرد عاصفة رملية أو صيف جاف، بل هو ناقوس خطر يُدقّ بقوة، ليحذر من خطر وجودي محدق بالأرض والناس، إن لم يُقابل بإرادة سياسية ورؤية بيئية علمية، قد يتحول إلى كارثة يصعب احتواؤها لاحقًا.