”هجرة منظّمة” لـ 600 ممرّض وممرّضة إلى فرنسا
بعد نزيف الأطباء الى الخارج جاء دور الجسم التمريضي الذي تستهدفه فرنسا اليوم بشكل لافت مع فتح مجموعة Elsan بابها لتوظيف ستمئة ممرض وممرضة لبنانية في مئة وسبعة وثلاثين مركزاً ومستشفى فرنسياً، وهي تنتظر تقديم الطلبات بين السادس عشر والسابع والعشرين من آب.
بهذه الخطوة تثبت فرنسا أنها صديقة الشعب اللبناني تسعى لإنقاذه ومساعدته فعلاً لا قولاً على عكس الدولة اللبنانية التي لم تحرّك ساكناً لمنع هجرة أدمغتها وكفاءاتها تاركةً النقابات تتخبّط وحدها.
إيميه أيوب، ممرضة مجازة تعمل كمندوبة ممرضة، تتقاضى راتباً لا يتجاوز عتبة المليوني ليرة لبنانية ما يدفعها الى البحث المتواصل وبإصرار عن فرص عمل أفضل في الخارج فهي أم لثلاثة أولاد تعجز بالمشاركة مع زوجها عن تأمين أدنى مقومات العيش الكريم واللائق لعائلتهما. وتسأل “كيف سنتمكّن من الصمود ونحن نقبض رواتبنا على دولار 1500 ليرة بينما كل السلع الأساسية تسعّر على دولار 18000 ليرة وما فوق؟!”.
قلبياً لا ترغب إيميه ولا زوجها بالمغادرة وترك الأهل والأقارب والأصدقاء في وطنهما الأم، ولكن هناك مسؤولية أولادهما الثلاثة وهما لا يقبلان بالمساومة على مستقبلهم من أجل وطن لا أمل فيه، ولو بعد مئة سنة تقول إيميه التي بدأت تقديم أوراقها الى الولايات المتحدة الأميركية حيث لا يقلّ راتب الممرض المساعد هناك عن أربعة آلاف دولار شهرياً فيما الممرض المجاز يتقاضى حوالى ستة آلاف دولار، ما يشجّعها على الهجرة الى أميركا بالإضافة الى دوامات العمل المريحة هناك،إذ أن ما ستتقاضاه يحتسب على الساعة.
بغصّة وحرقة تختم إيميه “أي بلد غير لبنان سيؤمّن لنا حياة أفضل… للأسف أجبرونا على أن نفقد وطنيتنا”.
بين مليون ومليون ونصف!
تبقى إيميه واحدة من آلاف الممرضين والممرضات الذين فقدوا الأمل ببلدهم وكانت الهجرة وجهة خلاصهم. منذ عام 2019 سجّلت النقابة مغادرة ألف وستمائة ممرض وممرضة من أصحاب الخبرات والكفاءات العالية في رقم مرشّح للازدياد طالما الأزمة مفتوحة بحسب النقيبة ريما ساسين التي تعمل على وضع خطة واضحة لتحسين شروط العمل من رواتب وتعزيز بيئة العمل بهدف وقف هذا النزيف الى الخارج. وتؤكد ساسين لـ”نداء الوطن” أن على الممرضين ان يلمسوا ان المسؤولين يقفون الى جانبهم وان النقابة بالتعاون مع وزارة الصحة تدعمهم للصمود كي يبقى القطاع الصحي الذي نتغنّى به في لبنان بعافيته، كاشفة عن قيام خبير مالي بدراسة الأرقام المتعلقة بالغلاء المعيشي وضغط العمل من أجل إعادة هيكلة وتحديد الرواتب بما ينصف الممرضين والممرضات، مع الأخذ في الاعتبار تقديمات المستشفيات للطاقم التمريضي الذي يعمل لديها، وهذه الدراسة ستقدّمها النقابة الى وزارتي الصحة والعمل ونقابة المستشفيات من أجل التعاون لوقف هذا النزيف والهجرة التي تعود بالضرر على القطاع المحلي.
وعن جدول الرواتب المعتمد للجيش الأبيض، أوضحت ساسين ان راتب الممرض المجاز يقدّر بمليونين ونصف المليون ليرة لبنانية إلا انه في بعض المستشفيات يتقاضى الممرض مليون ليرة أو مليوناً ونصف المليون ليرة، وهي رواتب باتت رمزية بالمقارنة مع الأعباء الكبرى الملقاة على كاهل القطاع التمريضي، الجيش الأبيض في الحرب ضد جائحة كورونا. وفي السياق، تطرح ساسين تقديم مساعدات معينة للممرضين إذا تعذّر رفع الراوتب مثل تأمين صحي أو بدل نقل إضافي.
هذا الواقع الصعب الذي يرزح تحته الممرضون يدفعهم إذاً الى الهجرة بحثاً عن بلد يقدّر جهودهم ويترجم التحية بتقدير مادي يُضاف الى التقدير المعنوي. وتشير النقيبة ساسين الى ان الطلب كبير على الممرضين اللبنانيين نظراً الى الكفاءات العالية التي يتمتعون بها، وهم يتلقون العروض من الدول العربية المجاورة الصديقة كما من دول أوروبية كبلجيكا وفرنسا وكذلك من الولايات المتحدة الأميركية، وتلفت الى ان مغادرة أصحاب الخبرات اليوم تفرغ الجسم التمريضي من كباره، فيما الأجيال الجديدة تحتاج الى المرافقة للتمرّس أكثر واكتساب الخبرات اللازمة خصوصاً أننا لا نزال نخوض المعركة مع كورونا.
باب الهجرة مفتوح
في التمريض كما في الطب الأزمة واحدة… باب الهجرة مفتوح للبنانيين، وها هو الدكتور شربل خليل الاختصاصي بالأمراض السرطانية وعلاج الخلايا الجذعية العائد قبل أعوام من باريس الى لبنان يستعد للهجرة مجدداً. مع عودة خليل من باريس افتتح أول مختبر لتخزين الخلايا الجذعية للحبل السرّي ولزراعة ومعالجة الخلايا الجذعية في لبنان Reviva Regenerative Medicine Center، تأسّس عام 2014 وهو تابع لمستشفى الشرق الأوسط في بصاليم. هذا المركز بمثابة الطفل بالنسبة الى الدكتور خليل والتحدي الأول ونقطة انطلاق أساسية في مسيرته المهنية لكن مصيره كان تعليق نشاطاته بالكامل بعدما فقد إنتاجيته نتيجة أزمة فقدان الأدوية والمستلزمات الطبية والدولار الذي أفرغ جيوب المرضى.
وفي حديث الى “نداء الوطن” يقول د. خليل “وصلنا الى مرحلة ما عم نعمل شي… صرنا مقهورين أخلاقياً لأننا غير قادرين على العمل والإنتاج بأخلاق وضمير، لا بل أكثر بتنا نصرف المرضى لعدم توافر الدواء أو لعدم قدرتهم على تكبّد تكاليف العلاجات وما باليد حيلة”.
خليل الذي تردّد طويلاً قبل حسم قراره، بدأ حزم حقائبه للمغادرة هذه المرة الى الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً الى مركز MD ANDERSON العالمي لزرع الخلايا الجذعية ولمعالجة مرضى السرطان في ولاية هيوستن بعدما تلقى عرضاً منذ حوالى العام في خلال مشاركته في أحد المؤتمرات الطبية، من أجل المشاركة في تأسيس مركز لتخزين الحبل السرّي في أميركا.
الفرصة كبيرة ومغرية أمام دكتور خليل وعلى الرغم من ذلك حاول أن يعيد التفكير مراراً علّه يجد سبباً ليعود عن قرار الهجرة لكنه للأسف لم يجد في ذهنه ما يعطيه أملاً بأيام أفضل في لبنان أقلّه في المدى المنظور، ويقول “حالياً ربّما أكون أكثر فعالية وإفادة لمرضاي وأنا في الخارج لأنني في لبنان مكبّل اليدين” مشيراً الى انه بإمكانه إرسال الأدوية المفقودة الى مرضاه كما أنه سيكون قادراً على مساعدة الاهل والأصدقاء أكثر من خلال ارسال بعض الدولارات لتسيير أمورهم بشكل أفضل.
بهذه الخطوة لمؤسس مركز reviva يُعلّق المختبر نشاطاته حتى إشعار آخر على ان يتمّ نقل الخلايا الجذعية الموجودة لديه الى مختبر مماثل في الأردن للاحتفاظ بها هناك، إلا أن د. خليل يجزم أنه متى تحسّنت أحوال البلد سيعود مجدداً الى لبنان ليعيد تشغيل مختبره الأوّل المتخصص بسحب الخلايا الجذعية ومعالجة امراض الدم وتخزين الحبل السرّي إضافة الى ضمّه قسماً يعنى بالتجارب والأبحاث الطبية والسريرية.
الجراحات في خطر!
الجسم الطبي يعيش مرحلة تصفية خبرات وهو منذ العام 2019 فقد ما لا يقلّ عن ألف وثلاثمئة طبيب، ويقول نقيب الأطباء شرف أبو شرف لـ”نداء الوطن” أنه لم يبق مستشفى جامعي في بيروت إلا وخسر على الأقل مئة طبيب اختصاصي من أصحاب الكفاءات العالية ما يشكل خطراً على لقب “مستشفى الشرق” الذي يتغنى به لبنان والقائم بالأساس على هؤلاء الاختصاصيين لأننا لن نكون قادرين على إجراء بعض الجراحات الكبرى مثل زراعة الكبد التي تنفّذها مجموعة من الأطباء الاختصاصيين وإذا نقص اختصاصيٌ واحد يتوقّف العمل بكامله لأنه سيكون هناك عنصر مفقود. ويشرح ابو شرف ان التأثير الأكبر على الجراحات وتحديداً جراحة الرأس والعظام نظراً الى دقّتها العالية، متحدثاً ايضاً عن فقدان أعداد هائلة من أطباء المختبرات والطوارئ والعناية الفائقة في وقت القطاع الطبي بأمسّ الحاجة الى هذا النوع من الاختصاصات الموجودة بأعداد غير كافية أساساً ما يفاقم الأزمة. ويشير ابو شرف الى نقص في أعداد أطباء التخصص الفرعي sous specialization ويضرب مثالاً المتخصصين بطبّ قلب الأطفال والبالغ عددهم عشرة في كل لبنان رغم الحاجة الى عشرين من هذا الاختصاص على الأقل، لكن الواقع أن خمسة منهم غادروا البلد، كذلك الأمر بالنسبة الى اختصاص غدد الأطفال..
ويضيف ابو شرف آسفاً ان هؤلاء الاختصاصيين درسوا في الخارج إنما اكتسبوا خبراتهم في لبنان الذي تكلّف على تدريبهم وها هو الغرب يقطفهم اليوم ثمرة ناضجة من دون أي جهد لكنهم يلقون التقدير المادي والمعنوي الذي لا يجدونه في لبنان”.
مغناطيس الدولارات
واقع الهجرة والاغتراب على الرغم من مرارته غير أنه فرصة كبيرة أمام اللبنانيين لتحسين أحوالهم وشروط حياتهم ومستقبل أبنائهم خارج وطنهم الأم حيث فقدوا أدنى مقومات وكرامة العيش بفضل حكّامه الذين حوّلوه الى جهنّم تحرق بنيرانها كل من وطئت قدماه هذه الأرض…
وفي الأرقام، يكشف رئيس لجنة الصداقة اللبنانية السعودية ايلي صعب عن الطلب الكبير على طواقم الجسم الطبي التمريضي الاستشفائي في لبنان مع العلم ان الأرقام تخضع لتفاوت إجراءات مكافحة كورونا في الدول بما يؤثّر على حركة السفر والقيود المفروضة.
خلال العام الأخير، استقطبت المملكة العربية السعودية من لبنان أطباء تجميل، أطباء أسنان متخصصين في الـ hollywood smile إضافة الى العديد من الممرضات، وهذه الاختصاصات هي عينها مطلوبة في قطر وسلطنة عُمان التي استقطبت مئة وخمسين ممرضة من بيروت وحوالى خمسة وثلاثين طبيب أسنان.
لماذا هذه الاختصاصات بالتحديد؟ لأن كفاءات اللبنانيين في هذه المجالات عالية جداً بما يغيّب أي منافسة من جنسيات أخرى والمفارقة أن اللبناني لا يهاجر بأقلّ من خمسة آلاف دولار لأن لبنان يصدّر كفاءات وخبرات بينما مصر والفيليبين وباكستان تصدّر عمالة.
أما الرواتب التي تدفعها دول الخليح الى أطباء لبنان لاستقطابهم فهي تتراوح بين خمسة الى عشرة آلاف دولار شهرياً، كما ان هناك مشاريع شراكة تُقام في العيادات بحيث يكون المستثمر طبيباً خليجياً يشاركه طبيب لبناني بخبرته.
ويشير صعب الى ان حوالى خمسمئة وخمسين الف لبناني في دول الخليج يقومون بتحويل نحو ثمانية مليارات دولار الى لبنان، (منهم في السعودية وحدها ثلاثمئة وخمسون ألف لبناني) يقومون بتحويل اربعة مليارات دولار الى أهلهم في لبنان. بينما التحويلات المالية من مصر فلا تزيد عن خمسمئة مليون دولار بحدّها الأقصى.
المصدر : مستقبل ويب
مواضيع ذات صلة :
قصة غريبة: شاب مات لـ 25 دقيقة ثم عاد إلى الحياة | العلماء يدقون ناقوس الخطر من عدوى “تأكل الدماغ” | الأبيض: الحفاظ على الأطباء اللبنانيين يتطلب إعادة بناء النظام الصحي |