من قبرص إلى القرم
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :
وضع فلاديمير بوتين الغرب، الأميركي والأوروبي، أمام امتحان تاريخي للقطبية المطلقة التي أرادتها واشنطن منذ انهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي، وتخبطت فيها، ثم تراجعت عنها، وحتى شجعت موسكو على دور الوكيل المعتمد، كحالها في سوريا القريبة، ضمن مواصفات واضحة. لكن الوقائع الأوكرانية الأخيرة تجرّ المتابع إلى التساؤل: هل أن واشنطن، واستطراداً حلفاؤها هم بهذا القدر من السذاجة إلى حدّ المراهنة على تراجع محتمل من بوتين، أم أن بوتين يملك من الأسلحة المتطورة ما لا يعادلها لدى خصومه ما يعطيه شعوراً فائقاً بالقوة والقدرة على هزم الجميع؟
عملياً، لعب الروسي لعبة حافة الهاوية، وسابق دول حلف شمال الأطلسي إلى التصعيد، وفيما رفع سقف تحدياته في وجه الجميع، انهالت رسائل الإستنكار والتلويح بالأعظم من دول الغرب، إلى درجة أن وزارة الخارجية الأوكرانية دعت القوى الكبرى إلى الكف عن التصريحات والبيانات وإرسال الدعم العسكري والمادي إلى كييف.
في 15 تموز 1974 نفذ قبارصة يونانيون يمينيون إنقلاباً عسكريا بهدف إلحاق قبرص باليونان، والإطاحة بحكومة الأسقف مكاريوس الثالث، وتثبيت نيكوس سامبسون اليميني المتطرف مكانه.
كان الانقلاب بأمر من المجلس العسكري في اليونان ونظمه الحرس الوطني القبرصي بالاشتراك مع EOKA-B، وكان الهدف استيلاد اتحاد “إينوزيس” لربط قبرص مع اليونان، وإعلان جمهورية قبرص اليونانية.
بعد خمسة أيام من ذلك غزت القوات التركية جزيرة قبرص، واستولت على ثلاثة في المئة من مساحة الجزيرة قبل إعلان وقف إطلاق النار، وانهار المجلس العسكري اليوناني وحلت محله حكومة ديمقراطية. في آب 1974، أدى غزو تركي آخر إلى الاستيلاء على ما يقرب من ٣٦ ٪ من الجزيرة. أصبح خط وقف إطلاق النار منطقة الأمم المتحدة العازلة في قبرص ويشار إليه عادة باسم الخط الأخضر.
يومها، أي قبل نحو ثمانية أشهر على إندلاع الحرب في لبنان، أوفدت جريدة “السفير” مدير التحرير فيها المرحوم ابراهيم عامر إلى الجزيرة لتوفير تغطية صحافية، ونجح في الظروف الصعبة إبّان ذلك بتزويد الجريدة بجملة إخبارية يتيمة، على لسان قائد الغزو التركي، وهي”نحن في قبرص ولن نرجع (إلى تركيا)”.
برغم الإعتراضات والتنديدات الدولية، يومها، لم تنسحب تركيا، وتصف مهمة جنودها بأنها “عملية حفظ السلام”، وبرغم أن اسطنبول وحدها اعترفت بـ”جمهورية قبرص التركية”، ولا يمكن الوصول إليها، جوّاً، إلّا عبر تركيا، فإن حالها بقيت على ما هي عليه، أي لا تعترف بها دول العالم عدا تركيا (منذ أعلنت استقلالها عام 1983)، وتجري المفاوضات لإعادة توحيد الجزيرة منذ عشرات السنوات، بلا جدوى.
لم تهدد العملية التركية في قبرص التوازن الدولي، وإن كانت أحرجت دول حلف شمال الأطلسي كون اليونان وتركيا عضوين فيه، بينما العملية الروسية المستجدة تؤشر إلى عودة الحرب الباردة، التي تأخرت عن موعد تسنى لها ولم تدركه، بسبب التواطؤات البينية، التي جرّت ندماً أعرب عنه وزير الخارجية الأوكراني حين رأى أنّه “كان ينبغي قطع العلاقات الدبلوماسية مع روسيا في عام 2014″، يوم ضمت شبه جزيرة القرم، وكانت العلاقات الثنائية بين روسيا وأوكرانيا استُعيدت فور حل الاتحاد السوفياتي الذي كانت روسيا السوفييتية وأوكرانيا السوفييتية جمهوريتين مؤسستين فيه.
انهارت العلاقات بين البلدين منذ الثورة الأوكرانية عام 2014، تلا ذلك ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، ودعم روسيا المقاتلين الانفصاليين من جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية في حرب أودت بحياة أكثر من 13000 شخص بحلول أوائل العام 2020، وفُرضت بسببها العقوبات الغربية على روسيا.
السؤال المُلحّ اليوم هو إلى أين؟
ستتبلّد ردود الفعل السياسية والإنسانية مع مرور الوقت، وتزايد التنديد والإدانة، لكن لن تكون لها ترجمات تطبيقية سوى استقرار الأمور تحت ركام الخطب والتصريحات، وما مصير شبه جزيرة القرم إلا “نموذجاً” لما سيقبل عليه المجتمع الدولي، ويقبل به كأمر واقع، فلا أحد يريد الحرب، ولا يربح بلا حرب إلّا من يحسن اختيار الوقت والأسلوب للتلويح بها، فكيف وأن الاحتلال أو الغزو أمر نسبي، يتقرر اسمه بحسب المنفذّ: فهو غزو في جورجيا وأوكرانيا، وهو تحرير في العراق وليبيا وباناما وكوبا وفييتنام وكمبوديا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |