اقتراع المغتربين (3): صوب الشرق أبحرت السفينة
كتب زياد شبيب في “النهار”:
شكلت الهجرات الكثيفة التي حصلت بسبب الأزمات الاقتصادية والأمنية نزيفاً في الجسد اللبناني لم يتوقف حتى اليوم حيث نشهد تعداداً يومياً للهاربين من الانهيار الحالي في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومن التأزم السياسي الآخذ بالانحدار إلى قعر لم نعرف له مثيلاً. ومع فقدان الأمل الذي يرافق هذه الأزمة برز إقبال المغتربين على التسجيل للمشاركة بالانتخابات النيابية القادمة كمؤشر على استمرار الرابط العضوي بين لبنان المغترب والمقيم وكان السؤال حول المدى الذي يجب أن تتخذه هذه المشاركة وإذا كان يتاح لهم الاقتراع في الدوائر التي ينتمون إليها أم في دائرة من ستة مقاعد تنحصر مشاركتهم فيها بحجة تخصيص هذه المقاعد لهم لتمثيلهم وإيصال صوتهم الاغترابي.
النتيجة التي تترتب على حصر اقتراع الناخبين غير المقيمين بالدائرة الاغترابية هي جعل مشاركتهم رمزيةً فولكلورية من دون تأثير في القرار الوطني أو في مسار الحياة العامة ومستقبل لبنان. أما المشاركة غير المقيّدة بتلك الدائرة فتتيح للكتلة الناخبة المغتربة أن تكوِّن مع الناخبين المقيمين هيئةً ناخبةً واحدة تتفاعل مع الأحداث ومع الخطاب السياسي، وأن تؤيد القوى الحاكمة أو قوى التغيير، كما تتيح لغير المقيمين أن يكونوا مرشحين وليس فقط ناخبين في جميع الدوائر. هذا ما أقره مجلس النواب في التعديلات الأخيرة على قانون الانتخاب وهو يعدّ تطبيقاً سليماً لمبدأ المساواة بين المواطنين الذي كرسه الدستور.
لا حاجة لاستعادة المبادئ والنصوص الدستورية المؤيدة لتكريس حق المغتربين بالاقتراع والترشيح في جميع المقاعد التي يتألف منها مجلس النواب والتي تمثل الأراضي اللبنانية، والتي سبق شرحها “بالنظام”. واليوم وبعد أن انتهى المجلس الدستوري إلى “لا قرار” تاريخي بشأن الطعن بالتعديلات التي أدخلت على قانون الانتخاب ومن بينها ما تضمنه لجهة إلغاء حصر المغتربين في ستة مقاعد اغترابية في ما سمي بالدائرة السادسة عشرة، فإن الموضوع أصبح في خانة الـ”لا عودة إلى الوراء”.
في المبدأ يعدّ امتناع القاضي عن اصدار حكمه بحسب قانون أصول المحاكمات المدنية، استنكافاً عن إحقاق الحق ومستوجباً المساءلة القانونية. إلا أن قانون إنشاء المجلس الدستوري ونظامه الداخلي أوجدا استثناءاً من تلك القاعدة وهو أن عدم التوصل إلى قرار هو نتيجة بذاته. والسبب ليس تشجيع الاعضاء على تعطيل عمل المجلس الدستوري أو السماح للمجلس بعدم البت بالطعون، إنما جاء تقييد المجلس بمهلة قصيرة للبت بالطعن بهدف حثّه على الإسراع في ذلك حرصاً على استقرار الأوضاع التشريعية والحؤول دون تعطيل نفاذ القانون دون أفق زمني عندما يتعذر تأمين الأكثرية المطلوبة لاتخاذ القرار بقبول الطعن أو بردّه.
اللاقرار هو نتيجةٌ من دون موقف، لأن مفاعيله تعادل قراراً بردّ الطعن. والقانون المطعون فيه يصبح نافذاً، مع فارق هو أن المسألة الدستورية التي كانت موضع البحث لم تُحسم، ولكن ليس ما يمنع من حسمها في إطار طعن آخر بقانون آخر قد يصدر بالأكثرية المشكو من عدم مطابقتها لنص المادة 57 من الدستور.
أنطونيوس البشعلاني الذي يشرف تمثاله على المرفأ المدمّر ناظراً صوب الغرب، هو المغترب الأوّل من لبنان إلى العالم الجديد كما يؤكد فيليب حتّي، وأوّل هجرة لبنانيّة معروفة في العصر الحديث حصلت في العام 1854. وبعده كرّت سبحة الاغتراب في مطلع عهد المتصرفيّة إلى مختلف دول أميركا الجنوبيّة وكندا وأوستراليا وأفريقيا.
النزيف المستمر لم يعد نزيفاً لأن مفاعيله تعطلت بتكريس انتماء جميع اللبنانيين إلى جسم واحد وهيئة انتخابية واحدة، مقيمين كانوا أم مغتربين.
هذه المحطة تعادل بأهميتها ودلالتها التاريخية حدث الهجرة الأولى ولكن بالاتجاه المعاكس لأنه صوب الشرق ستبحر سفنهم مليئة بصناديق الاقتراع والانتماء.
مواضيع ذات صلة :
في آخر تجمع انتخابي: هاريس تحذر من “التقارب الشديد” وترامب يعد بالقيادة نحو “قمم جديدة” | مسؤولون أميركيون: لا وقف لحرب غزة أو لبنان قبل الانتخابات | انتخابات الجزائر.. تبون يفوز بفترة رئاسية جديدة |