المداورة
نظام المحاصصة أو التحاصص الطائفي الذي تحكمت عبره الجماعة الحاكمة بهذا البلد ومقدراته فأوصلته إلى الانهيار، والذي صمد أكثر من مئة عام منذ تأسيس لبنان الكبير، وقاوم كل محاولات بناء الدولة، وتحول وتعدّل، وتبدّلت الأسماء المهيمنة عليه والمتقاسمة للحصص فيه، بدا هشّاً وقابلاً للكسر في الانتخابات الأخيرة. وهذا بغض النظر عن أعداد الفائزين بالمقاعد النيابية تحت لافتة “التغيير” وبغض النظر عن النتائج التي قد يتمكنون من تحقيقها خلال ولاية هذا المجلس والأهداف السليمة التي يفترض بهم التركيز عليها، والتباينات التي قد يقعون فيها والاختراقات التي قد تحصل أو قد حصلت أصلاً في صفوفهم من قبل الجماعة الحاكمة.
المهم في ما حصل في هذه الانتخابات هو ثبوت هشاشة النظام القائم والقدرة على تغييره ديمقراطياً وتدريجياً. هذه النتيجة الإيجابية التي سجلها اللبنانيون عبر تصويتهم للخيارات المختلفة لا بد أنهم تذوقوا طعمها وأدركوا قوة صناديق الاقتراع والقابلية التطبيقية لتحقيق عبارة “الشعب مصدر السلطات” الواردة في مقدمة الدستور.
من العوامل التي لعبت دوراً حاسماً في تحقيق هذه النتيجة كان البُعد الاغترابي للعملية الانتخابية. فقد أثبتت الوقائع والأرقام أهمية هذا البعد رغم المحاولات التي جرت مراراً لإلغاء اقتراع غير المقيمين أو لتعطيل تأثير أصواتهم في الدوائر الانتخابية التي ينتمون إليها وكان بالتالي للدفاع عن حقهم بالاقتراع والتأكيد على عدم دستورية الانتقاص من هذا الحق أهمية قصوى في المرحلة السابقة للانتخابات بما أدى إلى تثبيت هذا الحق. على أن الدفاع عن هذا الحق لم ينطلق حينها من منطلق التأييد أو المناوئة لأي فريق سياسي من المؤيدين أو المتخوفين من اقتراع المغتربين، إنما من منطلق مبدئي صرف همّه الحرص على المبادئ الدستورية وعلى ترسيخ الصوت الاغترابي كجزء لا يتجزأ من الهيئات الناخبة في كل دائرة، بحيث تتعطل معه مفاعيل الهجرة المستمرة ويكون المهاجرون مواطنين دائمين مشاركين في صناعة مستقبل وطنهم وبالتالي مستعدين دوماً للعودة إليه متى استتبّت أوضاعه.
نظام المحاصصة المرتكز إلى أساس التوزيع الطائفي للمناصب لا بد من متابعة العمل على إسقاطه وهذا لا يعني بالضرورة إلغاء المشاركة المتنوعة في مراكز السلطة من قبل اللبنانيين المنتمين إلى الطوائف التي يتكون منها المجتمع اللبناني، بل المباشرة بكسر حلقة الهيمنة على المناصب التي تحولت إلى متاريس ومراكز حماية الحصص في الإدارة والموارد العامة.
رأى البعض أن الفرصة سنحت اليوم لانتخاب رئيس للمجلس النيابي من غير الطائفة الشيعية وهذا مستحب ومطلوب وكان ليعتبر إنجازاً لو أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري المنتهية ولايته قد أعرض طوعاً عن الترشح لهذا المنصب وتركه لمن ينتمون لطائفة أخرى، على أن له الحق حينها بالترشّح شخصياً، أو بترشيح من يرغب هو والكُتَل النيابية المؤيدة له، للمناصب الدستورية التي سوف يأتي استحقاق ملئِها تباعاً وقريباً.
أيّد عدد من نواب “التغيير” الزواج المدني في تعبير من قبلهم ربما عن توجهات غير طائفية أو رغبة بالتخلص من الطائفية السياسية ولعلهم ظهروا بهذا المظهر، ولكن ذلك دلّ على استمرار الخطأ الشائع بأن نظام المحاصصة الطائفي يجد أساسه في الأحوال الشخصية وأن التخلص منه يبدأ بالزواج غير الديني. هذا الانطباع الخاطئ ساهم في تعميمه عُتاةُ الطائفيين الذين تتكون منهم الجماعة الحاكمة وهدفهم من ذلك كان نقل المشكلة إلى المكان الذي يتحول الطرح معه إلى معصية دينية تتطلب التوبة والاستغفار والخوف لاحقاً من مقاربة “التابو”.
بداية الحل تكمن في فك أسر المناصب الكبرى والمداورة إذا أمكن، التي بها يتحلل الصدأ المتراكم على مفاصل تلك المناصب، بانتظار قيام قوى سياسية تؤمن بالمساواة بين المواطنين وبحماية التنوع وتعمل على بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية.
مواضيع ذات صلة :
رئيس للجمهورية أم رئيس للبرلمان؟ | السعد: لتحقيق شفاف ومحاسبة المسؤولين | المعطلون يتذمرون |