سبع سنوات على “اتفاق معراب”.. بين “المصالحة التاريخية” وكلفة “فرطِه”
ثمّة مَن يعتقد بأنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل “طيَّرَ” اتفاق معراب بحكم تغليب الجشع السلطويّ في عملية توزيع المقاعد الوزارية والإدارية..
كتب جان الفغالي لـ “هنا لبنان”:
في الثامن عشر من هذا الشهر، تكون مرَّت سبع سنوات على “اتفاق معراب” الذي تمَّ توقيعه في مقر قيادة القوات اللبنانية بين رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في حضور العماد ميشال عون وعرَّابَيْ الإتفاق النائب ابراهيم كنعان والنائب ملحم الرياشي.
صحيح أنّ الإتفاق نُشِر، وصحيح أنّ ورقة النوايا التي سبقته، نُشِرَت أيضًا، لكن قصته لم تُروَ. العرَّابان، ابراهيم كنعان وملحم الرياشي يتحفّظان عن البوح، ويتركان السرد للتاريخ وللتأريخ، وهذه وجهة نظر تُحتَرَم، وإن كان لا يؤيّدهما فيها كثيرون، فللرأي العام حقٌّ عليهما في كشف ما جرى، ومع ذلك يلتزمان بإصرار عدم البوح ولو بتفصيل صغير. هل كان الاتفاق لمصلحة اللبنانيين عمومًا والمسيحيين خصوصًا، أو كان وبالًا عليهم؟ إذا كان الإتفاق استراتيجيًا، فلماذا سقط عند أول منعطف؟ مَن يتحمَّل مسؤولية سقوطه؟ هل هي نزعة الاستئثار وجشع السلطة من جانب أحد طرفيه، جبران باسيل؟ أم عدم التزام القوات اللبنانية بدعم العهد، كما يردّ التيار؟ في أي حال، الوقائع التي سترِد لاحقًا ستحسم الجدل.
تبدأ القصة من هنا: في إحدى المقابلات التلفزيونية للعماد ميشال عون، قبل أن يُنتخب رئيسًا للجمهورية، سئل عن الإنتخاب وعن إمكانية معركة إنتخابية بينه وبين مرشح آخر، جاء الجواب صاعقًا: “أقبل بالمعركة الإنتخابية إذا كان الدكتور جعجع هو المرشح الآخر”، تلقّف أحدهم جواب العماد عون، وجس نبض الدكتور جعجع في ما قاله الجنرال، وجاء جواب الدكتور جعجع صاعقًا: “أنا أسير بالعماد عون لكن ليس قبل التفاهم”، بدا جعجع وكأنه أعطى أكثر مما هو متوقع.
بدأت “جلجلة” الاجتماعات في أيلول من العام 2015، انعقد أحد عشر اجتماعًا منها في الرابية، وكانت تضم الجنرال عون والعرابين كنعان والرياشي، وهذه الاجتماعات موثقة بمحاضر، وكانت النقاشات سياسية واستراتيجية بامتياز، تناولت تقويمًا للمراحل التي سبقت.
بعد ذلك أصبحت الاجتماعات تتنقل بين الرابية ومعراب، وتُوِّجت بزيارة جعجع إلى الرابية في الثاني من حزيران 2015 وإعلان ورقة النوايا.
ما كان يجري في تلك اللحظة، كان سورياليًا: الخصمان اللدودان “يصفِّيان نواياهما” على أوراق، استهلكت أربعين مسودة، وكثيرون من الرأي العام والمرجعيات لم يكونوا يصدِّقون ما يرون.
انتقل البحث لاحقًا إلى إعداد ورقة التفاهم: الرياشي عن الدكتور جعجع وكنعان عن الجنرال عون، ولا ثالث بينهما، إلى أن حلَّ “التاريخ الأبيض”، 18 كانون الثاني 2016. العماد ميشال عون في المقر العام للقوات اللبنانية في معراب! مَن يصدِّق؟ الإتفاق حمل توقيع الدكتور سمير جعجع بصفته رئيس حزب القوات اللبنانية، وجبران باسيل بصفته رئيس التيار الوطني الحر. الإتفاق تم قبل عشرة أشهر من انتخابات الرئاسة التي أوصلت العماد عون إلى قصر بعبدا، معزّزًا بتفاهم مار مخايل وبتفاهم معراب وبصفقة أبرمها جبران باسيل مع الرئيس سعد الحريري عبر نادر الحريري، وبعدم رضا الرئيس نبيه بري.
اتفاق معراب شقَّان: شقّ استراتيجي وشقّ يتعلق بالحصة المسيحية داخل الحكومة والإدارة، الشق الإستراتيجي حقق هدفين كبيرين: استعادة موقع رئاسة الجمهورية، وقانون انتخابات نيابية يعيد التوازن.
لكن الاتفاق بدأ بالتعثر حين قرأ الجميع في أداء رئيس التيار جبران باسيل نزعة إلى الزستئثار في كل المواقع والمناصب، في كل القطاعات. كان الاتفاق أن تكون هناك مناصفة بين التيار وشركائه وبين القوات وشركائها، لكن هذا الاتفاق أسقطه باسيل من أول الطريق: في الحكومة الأولى كان الاتفاق أن تكون حصة المسيحيين خمسة عشر وزيرًا، ثلاثة لرئيس الجمهورية، ستة للتيار وحلفائه وستة للقوات وحلفائها. أعطيت القوات ثلاثة وزراء ووزارة لحليفها ميشال فرعون، وأعطي الرئيس الحريري وزيران هما غطاس خوري وجان أوغاسبيان، فيما بقيت حصة الرئيس والتيار تسعة وزراء من دون المس بأي وزير أو حقيبة. حصل هذا الاستئثار قبل أن تُطلَق ذريعة عدم التعاون مع رئيس الجمهورية في ملفات حساسة ومنها الكهرباء.
سكتت القوات عن النكوص بالوعد، علَّ تصحيح الخطأ يأتي في مواقع لاحقة، لكن الوضع استمرّ على هذه الوتيرة من الاستئثار وقد جاءت التعيينات لتُثبت ذلك:
في تعيينات مجلس إدارة الكازينو، عين جبران باسيل سبعة محسوبين عليه فيما لم يُعطِ القوات سوى عضوٍ واحد، وانسحب ذلك أيضًا على التعيينات في وزارة الطاقة وفي مصالح المياه وفي القضاء وفي الإتصالات ولا سيما في أوجيرو وفي شركتَي الخليوي ألفا وتاتش. حل كل ذلك في الشهور الأولى من بداية العهد، وكان باسيل اعتمد استراتيجية “ضرب حديد التعيينات وهو حامٍ” غير عابئ بالاتّفاقات والوعود والعهود، مراهنًا على أنّه إذا رفعت القوات الصوت فإنّ الأمر سينقلب عليها وسيُظهرها بمظهر الساعي إلى المناصب.
ففي تعيينات المجلس الدستوري نال جبران باسيل حصة الأسد، وفي المقابل، رفض تعيين الخبير الدستوري سعيد مالك عضوًا في المجلس.
حتى في ملف الكهرباء، فإنّ القوات اعترضت على عدم مرور الاتفاقات بإدارة المناقصات (وهذا الملف أشبعه درسًا وتوضيحًا الدكتور جان العلية).
في الخلاصة، ثمة مَن يعتقد بأنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل “طيَّرَ” اتفاق معراب بحكم تغليب الجشع السلطوي في عملية توزيع المقاعد الوزارية والإدارية، وهو يرد على ذلك بأنّ إخلال القوات بدعم العهد دفع بباسيل إلى هذا الخيار.
اتفاق معراب أُريد له أن يكون “خاتمة أحزان” وختمًا لجروح حفرت عميقًا في وجدان المسيحيين، لكن حين آثر أحد طرفيه بيعَه بـ “ثلاثين من فضة” التعيينات والاستئثار بالمواقع، نقلَه من “وثيقة تاريخية” كان يمكن أن تبقى للأجيال، إلى لائحةٍ بأسماء مَحظيين، من وزراء ونواب ومدراء عامين، أنكروا مَن أسبغ عليهم النعمة “قبل صياح الديك”، فبقي وحيدًا ولم يندم، في اقتباس معدَّل لعنوان كتاب الصحافي الكبير الياس الديري “تبقى وحيدًا وتندم”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
هل سقطت معادلة “الشعب والجيش و… إيران”؟ | راقبوا الميدان… الحرب في بدايتها | لبنان أمام عشرة أسابيع حاسمة |