حارس العدالة
قد تكون المواجهة الكبرى والصامتة التي يشهدها قصر العدل، منذ استعادة القاضي طارق البيطار لمهمته، خير دليل على أن هناك رجالاً للعدالة كالقاضي سهيل عبود وأمثاله، أقسموا على أن لا يكونوا أسرى لمواقعهم، ولا أن يكونوا طعماً لإغراءات الجاه والسلطة.
كتب أسعد بشارة لـ “هنا لبنان”:
قد يكون من سوء التدبير أن يكتب الإعلام عن القضاء، وقد يكون من أسوأ الخيارات الكتابة عن قاضٍ بحد ذاته، ذلك أنّ انتقاد القاضي في العلن يحدث جرحاً وخيبة أمل كبيرة، باعتبار أنّ القاضي هو آخر من توجه له سهام النقد، والقضاء هو آخر ما يجب الكلام عنه، لأنّ مهمته أعلى من النقد والتناول.
لكن في المقابل سيكون من الصعب أيضاً أن يكتب عن قاض، لمجرد أنه الأمين على مهمته المقدسة، فالكتابة ستكون كمن يكبر في رجل قيامه بواجبه، وهذا يفترض أن يكون “تحصيل الحاصل”، كما ستكون إدانة صارخة لمن يجلس على كرسي القضاء دون أن يرتقي إلى المقام الذي وضع فيه، وسواء عرف أم لم يعرف، فهو أصبح منتحل صفة، ويتجاوز الانتحال التوقيع الرسمي، وأبهة الموقع، وغرور الادعاء بامتلاك الحق بردة الفعل.
لهذا كان من الصعب أن تكتب كلمات المقال هذا، عن القاضي سهيل عبود، سواء قبل أن يجلس في مكتب الرئيس الأول، وخلاله تبوئه الموقع، وحتماً بعد أن يغادره.
ستكون الإشادة بالقاضي عبود من باب شكره على قيامه بواجبه، لا بل على تلبيته نداء الضمير، وستكون الإشادة به مدعاة للانتقاد أيضاً، لأن القضاء والقضاة يجب أن يبقوا بمنأى عن التناول، لا بالسلب ولا بالإيجاب، فهم دائماً يسكنون خلف الصمت، وهم في تحفظهم يحفظون المهمة، لا بل يحرسونها، لأنها استثنائية، ولا تحتمل الدخول في المتاهات، وهي تلفظ كل إغراءات المسارح وأضواء الشهرة، وشغف التشاوف والظهور.
لكن ورغم كل هذه الاعتبارات، لماذا نتكلم عن سهيل عبود؟ تملي َعلينا الحقيقة أن نؤرخ لهذا القاضي ولأمثاله، لأن “العدلية” بالنسبة له، كانت وتبقى محراباً لقوة القانون ورفعة العدالة. لقد انتقل في عمله من موقع إلى آخر، وانتقلت معه هذه المفاهيم، فتمسك بها، وليست مسألة التعيينات القضائية التي صدرت في ولايته كرئيس لمجلس القضاء الأعلى، سوى مثل غير يتيم من أمثلة كثيرة طبعت عمله في القضاء.
قد تكون المواجهة الكبرى والصامتة التي يشهدها قصر العدل، منذ استعادة القاضي طارق البيطار لمهمته، خير دليل على أن هناك رجالاً للعدالة كالقاضي سهيل عبود وأمثاله، أقسموا على أن لا يكونوا أسرى لمواقعهم، ولا أن يكونوا طعماً لإغراءات الجاه والسلطة.
هذه المواجهة تدور حول ملف التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، وبات واضحاً أن النية بإقصاء المحقق العدلي طارق البيطار تحولت إلى تصميم، يلبس لبوس القضاء، ولا يريد من رئيس مجلس القضاء الأعلى إلا توقيعه، على قرار يؤدي إلى إقصاء القاضي طارق البيطار، ودفن التحقيق إلى ما لا نهاية.
ما بدا من هذه المواجهة، أن القاضي عبود يحمي وسيحمي استقلالية المحقق العدلي وعمله، وهذه من صلب مسؤوليات رئيس مجلس القضاء الأعلى، لكنها أيضاً ترتبط عضوياً بسلوك ونهج شخصي، لا يرتضي المساومة لا بدافع الخوف ولا بدافع المصلحة. إنها مهمة حراسة العدالة، وما أقدسها من مهمة!
مواضيع مماثلة للكاتب:
لكل 17 أياره: استسلام الممانعة | تفاؤل وهمي والحرب تتصاعد | لبنان على موعد مع أشهر صعبة |