أسرار متفجرة حول إنفجار كنيسة سيدة النجاة
اليوم، يعود جعجع إلى قضية الكنيسة، ليس من أجل الذكريات وإنما للقول أنّ تفجير الكنيسة في ظروف ولّت، أفسح المجال أمام تفجير مرفأ بيروت الهائل في 4 آب 2020 في ظروف أتت ولا تزال.
كتب أحمد عياش لـ “هنا لبنان”:
29 عاماً مضت على تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل. ففي صبيحة يوم الأحد في 27 شباط 1994، عند الساعة 9:15 صباحًا، انفجرت قنبلة تحت مذبح الكنيسة بينما كان المصلون يتناولون القربان من قِبل الأب أنطوان صفير، وعُثر على خمس متفجرات أخرى في الكنيسة التي كان يتواجد فيها أكثر من 200 شخص. انفجرت متفجرات من طراز C4 وقذيفتا هاون عيار 81 ملم، فقُتل 11 شخصاً وأصيب 54.
هذا ما لا يزال يورده من وقائع، موقع ويكيبيديا الإلكتروني حول ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم، وكم هي كثيرة أيام الشؤم في العقود الأخيرة من تاريخ لبنان.
أمّا ما قاله رئيس الجمهورية الأسبق الياس الهراوي في مذكراته، وكان وقت المجزرة في سدة المسؤولية، في الكتاب الذي حمل عنوان “الياس الهراوي… عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة”، فهو الآتي: “كنت في مستشفى تل شيحا في زحلة أعود شقيقتي الصغرى وهي في غيبوبة تعيش ساعاتها الأخيرة حين أبلغت أنّ انفجاراً حصل داخل كنيسة سيدة النجاة… انتقلت فوراً إلى بيروت حيث باشرت الاتصالات لتطويق ذيول الحادث منعاً لتطوره إلى صراعات طائفية تعيد البلاد إلى أجواء الماضي الذي يسعى إليه مخططو الجريمة”. ثم روى مشاركته في اليوم التالي “في مراسم جنازة ضحايا المجزرة، والذي ترأسه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وحضرته ستريدا زوجة سمير جعجع”.
في العودة إلى ما كتب حول تلك المرحلة، تبيّن أنّ الهدف منذ بداية المجزرة، كان تحميل قائد “القوات البنانية” الدكتور سمير جعجع المسؤولية وإدانته على أساسها. علماً أنّ الرئيس الهراوي في مذكراته طرح احتمالاً آخر، فقال: “شغلت قضية تفجير الكنيسة الرأي العام، فربطها البعض بمجزرة الحرم الابراهيمي التي حصلت قبل 48 ساعة وذهب ضحيتها 52 فلسطينياً، وهم يؤدون الصلاة على يد إسرائيلي أطلق النار عليهم عشوائياً، واعتبروا أنها ترمي إلى تحويل أنظار العالم عن جريمة الخليل(فلسطين)”.
ثم أوردت مذكرات الهراوي الخطوة التي اتخذها مجلس الوزراء برئاسته وحضور رئيس المجلس رفيق الحريري والوزراء بـ “سحب العلم والخبر المعطيين في 10 أيلول 1991 بتأسيس الجمعية المسماة حزب القوات اللبنانية في بيروت”.
لم يفت الهراوي أن يروي وقائع يوم 21 نيسان 1994، “عندما أصدر القاضي منير حنين استنابة إحضارٍ بحق جعجع وتوجّهت قوى من الجيش إلى مكان إقامته في غدراس لإحضاره”. وقال: “كانت الساعة تقارب السابعة مساءً، عندما طوّقت مجموعة من الدبابات منزل جعجع. وقرابة الثامنة والنصف مساءً، دخل قائد القوة المنزل حيث أبلغ جعجع، الذي لم يفاجأ، مذكرة الإحضار. ودون أي اعتراض، رافق قائد القوات اللبنانية السابق الضابط في سيارة عسكرية إلى وزارة الدفاع بعيداً عن أعين الصحافيين ووسط ذهول حرّاسه الذين لم تصدر عنهم أي محاولة مقاومة”.
قبل نحو 13 عاماً، وكانت قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة قد أصبحت من الماضي، وخرج جعجع عام 2005 من السجن الانفرادي، بريئاً من تهمة تدبير التفجير الذي جرى توقيفه بسببها، ظهر مقال صحفي، جاء فيه: “قراءة الادّعاء في القضية نفسها، استكملت أخيراً عبر أكثر من كلام وتصريح ومقابلة وحديث لـ (النائب حالياً) جميل السيد، تقول إن جعجع كان يعدُّ فعلاً للانقلاب على الوضع القائم سنة 1994، وأنه كان يراهن على انتفاضة مسيحية تُسقط السلطة وتقسم الجيش وتعيد رسم خطوط تماس تضمن له حيزاً أكبر في لعبة الطائف التي انقلبت عليه، فقرر الانقلاب عليها. وأنه بدأ يُعدّ لتلك الانتفاضة عبر عمليات تفجير تستهدف البيئة المسيحية بنحو التفافي “مؤامراتي”، حتى وقع تفجير الكنيسة. وأن القوى الأمنية يومها كانت قد توصلت إلى رأس الخيط الذي يربط تلك الجرائم بجعجع”.
في المقابل، تورد مذكرات الهراوي: “صباح اليوم التالي لتنفيذ مذكرة الإحضار بحق جعجع قصدت زوجته ستريدا القصر الجمهوري بلا موعد سابق والتقت زوجتي طالبة منها بإلحاح مقابلتي. إستقبلتها فترة خمس دقائق تمنّت عليّ خلالها المساعدة قائلة إنها على استعداد لتنفيذ ما كنت نصحت زوجها بالقيام به، أي السفر إلى الخارج، فأجبتها أن المسألة لم تبقَ مسألة سياسية بل أصبحت في يد القضاء، مضيفاً أنه يوم كانت قضيته سياسية، وفّرت له فرصاً كثيرة منها المشاركة في حكومة الرئيس عمر كرامي، ثم في حكومة الرئيس رشيد الصلح، فرفض في المرتين، كما نصحت له في المشاركة في الانتخابات فقاطعها. أما والقضية أصبحت الآن أمام القضاء، فلم يبقَ بإمكاني التدخل. حاولت بعدها الاتصال بي مرات، فلم أرد على اتصالاتها”.
ما لم يرد في مذكرات رئيس الجمهورية الأسبق، وبحسب معلومات وزير بارز في التسعينات، أنّ الهراوي وخلال متابعته تفجير الكنيسة مع القضاء المختص، تبلغ من الأخير أن لا وجود لأدلة تسمح باتهام جعجع. عندئذٍ، استدعى الهراوي مسؤولاً بارزاً في النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، سائلاً إياه رأيه في عدم وجود أدلة ضدّ جعجع، فكان جواب الأخير، أنّ النظام السوري مصرّ على إدانة جعجع بأي طريقة كانت.
وهكذا كان. لكن مرور 29 عاماً، كفيل بأن يمنح الهدوء كي تُعاد مراجعة ملف جريمة الكنيسة. وليس تفصيلاً صغيراً أنّ من أريد تحميله المسؤولية، أي الدكتور جعجع، أطل السبت الماضي في القداس الإلهي الذي أقامته منطقة كسروان في حزب القوات اللبنانية، فقال: “قبل هذه الحادثة بشهرين، طلب الرئيس الراحل الياس الهراوي بعد عودته من الشام، من شخص ما، إيصال رسالة لنا مفادها بأن النظام السوري (ناوي عليي) ويجب أن أغادر لبنان مع زوجتي. وهذه الواقعة مدوّنة في مذكرات الرئيس الهراوي”.
لم يغادر جعجع لبنان، بل من غادر النظام الأمني السوري. واليوم، يعود جعجع إلى قضية الكنيسة، ليس من أجل الذكريات وإنما للقول أنّ تفجير الكنيسة في ظروف ولّت، أفسح المجال أمام تفجير مرفأ بيروت الهائل في 4 آب 2020 في ظروف أتت ولا تزال. والفارق اليوم، أنّ طلب العدالة لن يقف في وجهه أي نظام أمني وهذا ما وعد به السجين السابق. وعندما تأتي العدالة سترفع الستارة عن أسرار متفجرة حول تفجير كنسية سيدة النجاة وغيرها.
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني | “مرشد” لبنان و”بطريرك” إيران | تفليسة “تفاهم” مار مخايل في عملية البترون |