بوسطة عين الرمانة قبل “ويكيليكس”
لكي لا يتكرر ما حدث في عين الرمانة، ولكي لا تدخل البوسطة مجددًا، لا بد من كشف اللثام عن حقيقة ما حدث، للاتّعاظ منه، ولئلّا يتكرر، وهذا يستلزم كشف الحقيقة من خلال وثائقها الأصلية القابعة بين دفات ملفات أجهزة المخابرات، لا الاكتفاء بروايات وسرديات لا ترقى إلى مستوى التأريخ المطلوب.
كتب جان الفغالي لـ “هنا لبنان”:
في عصر ” ويكيليكس”، وجوليان أسانج، صارت كتابة التاريخ من دون وثائق ضربًا من العبث وأسلوبًا من أساليب الخواطر والوجدانيات في الأدب.
الكتابة عن حادثة وقعت منذ ثمانية وأربعين عامًا، من دون وثيقة أو شاهد أو مَحاضر تحقيق، هي ضرب من ضروب الروايات البوليسية التي يرد عادة في مقدمتها: “إن الأشخاص في الرواية هم وهميون ولا علاقة لهم بوقائع تجري في الرواية”.
في غياب الوثائق، أو مع إبقائها طي الكتمان، أو لم يُرفع الحظر عن نشرها، لا بد من التعويض عنها بطرح جملة من الاسئلة، علَّ في الإجابة عنها نجد ما يمكن أن يلقي ضوءًا على ما حدث.
نتحدث عن “الشرارة” التي أشعلت حرب لبنان في 13 نيسان 1975. وهذه الشرارة اصطلح على تسميتها “بوسطة عين الرمانة”، ونبدأ بالأسئلة:
البوسطة العائدة من صبرا، لماذا دخلت إلى عين الرمانة؟ علمًا أن طريقها لم تكن من حيث دخلت، في طريقها إلى جسر الباشا؟
مَن هو الدرَّاج على الدراجة النارية الذي كان ينتظر البوسطة “ليرشدها” إلى المفرق الذي دخلت منه؟ أين اختفى؟ هل كان يفترض أن يكون هناك درَّاج أصلًا في تلك المحلَّة؟
هل كان سائق البوسطة على عِلمٍ بالحادثة التي وقعت في عين الرمانة قبل وصوله؟
لماذا اقتصرت برقية قوى الأمن الداخلي على “مختصر”؟ ولماذا فصلت حادثة السيارة عن حادثة البوسطة؟
نفتح مزدوجين لنورِد حرفية البرقية التي أرسلها آمر فصيلة الدرك في فرن الشباك الساعة الرابعة عشرة من نهار الأحد 13 نيسان 1975إلى القيادة العامة لقوى الأمن الداخلي، والتي ورد فيها: “إلحاقًا لبرقيتنا رقم 2668، تاريخ اليوم، أقفلنا شارع مار مارون في عين الرمانة، بدوريتين، لمنع مرور عناصر فدائية، ولكن سيارة فيات فيها مسلحون، مرت عنوةً ولم تمتثل، وما إنْ وصلت إلى منتصف الشارع المذكور، حتى تبادلت إطلاق النار مع عناصر في المحلة، وكانت النتيجة أن جرح فدائي وشخص آخر من الكتائب يدعى جوزيف أبو عاصي، ويشاع أنه توفي. ويوجَد أوتوبيس بداخله عدد من القتلى والجرحى لم نتمكن من الوصول إليه بسبب إطلاق النار بغزارة… حالة الأمن مضطربة جدًا ويمكن أن تجر البلاد إلى حوادث دامية… إنها تتضاعف تدريجيًا وتتطلب التدخل السريع لتطويق الحادث على مستوى عالٍ… سنفيد. التوقيع: عبد الساتر”.
هذه البرقية تشكِّل الوثيقة الرسمية الوحيدة لِما حدث، ما يضاعف من الإلحاح في طرح الأسئلة حيال خطورة ما حدث:
لماذا لم ينتشر الجيش اللبناني في المنطقة التي وقع فيها الحادث؟
كيف، وبسرعة البرق، ارتسمت خطوط التماس، للمرة الأولى، بين عين الرمانة والشياح؟
ما هو دور المخابرات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية في التخطيط والتمهيد لِما حدث؟ هل كانت لها، أذرع منفِّذة؟ هل هذه الأدوار موجودة في أرشيف تلك المخابرات؟ وإلى متى ستبقى تحت عنوان “يُحظَّر نشره”؟
منذ العام 1975 وحتى الأمس القريب، صدرت عشرات الكتب، ورد فيها ما حدث يوم 13 نيسان، أصحاب هذه الكتب كانوا من المعنيين مباشرةً بالأحداث، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، صلاح خلف، ” أبو أياد” الرجل الثاني في حركة “فتح”، بعد أبو عمار، وكتاب “الحروب السرية في لبنان” لمؤلفيْه “آني لوران” وأنطوان بصبوص، وكتاب “أبو نضال – بندقية للإيجار”. الجامع المشترك بين هذه الكتب أنها تحدثت عن أدوار مثبتة لمخابرات داخلية وعربية وإقليمية ودولية، فصلاح خلف، “أبو أياد” يكشف في كتابه “فلسطيني بلا هوية” أن أحد ضباط المخابرات السابقين، أطلعه على وثيقة عن دور لأحد أجهزة المخابرات العربية بالضلوع في حادثة عين الرمانة.
على رغم تعدد الوثائق، ومعرفة كثيرين بوجودها، من دون معرفة مضمونها، تبقى معظم السرديات قائمة على غرار تبسيط ما حدث، كسردية أحداث 1860 في الجبل وأنها بدأت بين ولديْن، واحد درزي والآخر مسيحي، كانا يلعبان بالكِلَّة، فاختلفا، وبدأت الأحداث بين الدروز والمسيحيين!
لكي لا يتكرر ما حدث في عين الرمانة، ولكي لا تدخل البوسطة مجددًا، لا بد من كشف اللثام عن حقيقة ما حدث، للاتّعاظ منه، ولئلّا يتكرر، وهذا يستلزم كشف الحقيقة من خلال وثائقها الأصلية القابعة بين دفات ملفات أجهزة المخابرات، لا الاكتفاء بروايات وسرديات لا ترقى إلى مستوى التأريخ المطلوب. ولنتذكَّر دائمًا: وثائق “ويكيليكس” فتحت مدرسةً جديدة في التأريخ، من دون “التعلم فيها”، سيبقى تعليم التاريخ منقوصًا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
راقبوا الميدان… الحرب في بدايتها | لبنان أمام عشرة أسابيع حاسمة | تدمير تحت الأرض.. دمارٌ فوق الأرض |