استقلال القضاء.. حلمٌ بعيد المنال
بين تجربة القاضية غادة عون في ملفّ المصارف عبر الادعاءات والملاحقات، متخطية قرارات رؤسائها، ما استدعى تدخلاً من رئيس الحكومة ووزير الداخلية عبر الإيعاز للأجهزة الأمنية بعدم تنفيذ أوامرها، وتجربة المحقق العدلي بملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، هل بات مشروع استقلالية القضاء حلماً بعيد المنال؟
كتب يوسف دياب لـ “هنا لبنان”:
يعيش “حرّاس العدالة” في لبنان هاجس إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية معنوياً ومالياً وترجمتها على أرض الواقع، غايتهم من ذلك وقف التأثير السياسي في قراراتها، بدءاً من التشكيلات القضائية، إلى التدخل في عمل النيابات العامة، وصولاً إلى “الانغماس” في وقائع الأحكام وخلاصاتها، فكلّ هذه العوامل كانت عنوان مرحلة طويلة من الاعتكاف والإضراب التي دامت أشهراً طويلة، وشلّت معها مرفق العدالة ومصالح الناس.
هذه المطالب محقّة وضرورية، فتجربة السنوات الأخيرة جعلت من السلطة الثالثة مؤسسة معطلة بكل المقاييس، ما أخرج القضاء الصامت والملتزم موجب التحفّظ عن طوره، علّه يتحرر من سطوة المطبقين على صدر البلاد والعباد، فتعطيل التشكيلات القضائية الشاملة على يد الرئيس السابق ميشال عون وفريقه، ومن ثمّ تجميد مرسوم تعيين رؤساء محاكم التمييز بقرار تقاذف مسؤوليته وزيرا المال يوسف خليل والعدل هنري الخوري ومجلس القضاء الأعلى، وتحريك دعاوى وحفظ أخرى بالأدراج حسب أهواء أهل السياسة ومصالحهم، شكّل النموذج الصارخ على فداحة التدخل بمسار العدالة وجعلها رهينة خيارات المنظومة الحاكمة، فهل هذا المطلب قابل للتحقق؟ وهل يُقدّر لقانون استقلال القضاء العالق في لجنة الإدارة والعدل أن يبصر النور؟
ظاهرياً كل الكتل النيابية تدعّي حرصها على إقرار القانون، أما الحقيقة فالكلّ يرغب في تطييره، فيما اللافت هذه المرّة أن قضاة بارزين أضحوا مقتنعين بأنّ استقلال القضاء، قد يكون سيفاً ذو حدّين، ويرون أن “مخاطره قد تتفوّق على حسناته”، هذا الموقف المفاجئ أسرّ به قاضٍ بارز يشغل منصباً مهماً خلال جلسة خاصّة، إذ أبلغ مقرّبين منه بأن “قانون السلطة القضائية بالصيغة التي يطالب بها زملاؤه، سيكون كارثياً بكل المقاييس”.
يعترف القاضي بأن استقلالية السلطة القضائية مالياً ومعنوياً، وإعطاء القضاة وحدهم سلطة انتخاب مجلس القضاء الأعلى وتفويض الأخير وحده بالتشكيلات القضائية والتعيينات في المناصب الحساسة، لن يجعل من لبنان المدينة الفاضلة، لا بل سيهدد مصير القائمين في محراب العدالة، والأمثلة على ذلك لا تنتهي.
قد يتعسّف المحامي باستخدام القانون من أجل تأجيل الجلسات والتسويف وتأخير المحاكمات وفق ما يقتضي ملفّه ومصلحة موكله، وهذا حقّه (وفق تعبير القاضي البارز)، لكنّ تعسّف القاضي باستخدام سلطته هو الخطر الأكبر على العدالة”. ويعطي المسؤول القضائي مثالين لذلك، الأول: تجربة القاضية غادة عون في ملفّ المصارف عبر الادعاءات والملاحقات، متخطية قرارات رؤسائها، وهو ما استدعى تدخلاً من رئيس الحكومة ووزير الداخلية عبر الإيعاز للأجهزة الأمنية بعدم تنفيذ أوامرها أو تلقي إشاراتها، والثانية تجربة المحقق العدلي بملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، الذي أجاز لنفسه الادعاء على رئيس الحكومة ووزراء ونواب وقادة أمنيين وعلى النائب العام التمييزي وذهب إلى حد إصدار مذكرات توقيف غيابية بحق بعضهم، ما استدعى تدخل عويدات سريعاً، حين أمر برفض تسلّم أي مذكرة منه، وادعى عليه باغتصاب السلطة، وذهب إلى ردّة فعل أكبر عبر إطلاق سراح جميع الموقوفين بملفّ المرفأ.
مناسبة هذا القول، بأن استقلالية السلطة القضائية ليست مطلقة ويجب ألّا تكون، ويعطي القاضي الرفيع مثالاً على ذلك، قائلاً: “السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة هي سلطة مستقلّة، لكن استقلاليتها لها ضوابط، فالمجلس النيابي قادر على محاسبتها وسحب الثقة منها”. ويضيف أيضاً “البرلمان المنبثق عن إرادة الشعب هو سيّد نفسه، لكنّه يبقى خاضعاً لقيود دستورية يستحيل تخطيها، فالحكومة قادرة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية على حلّه والدعوة لانتخابات نيابية جديدة، إذا ما امتنع عن الانعقاد وسنّ القوانين خلال الدورة العادية، أو رفض إقرار الموازنة العامة، من هنا فإن الدستور يتحدّث عن استقلالية السلطات الدستورية وتوازنها وتعاونها، لا عن تفرّدها وتفلّتها من الضوابط”. ولا يتردد المسؤول القضائي في التحذير من أن “سلوك هذا المنحى، وإعطاء هذه الاستقلالية بلا ضوابط تجعل من القاضي ديكتاتوراً”. ويسأل “ماذا يمنع القاضي من الادعاء على رئيس الجمهورية وملاحقته؟ وأي شيء يمنعه من ملاحقة رئيس المجلس النيابي، كما حصل في ملاحقة حسّان دياب، تحت عنوان الاستقلالية؟”
إن مطلب السواد الأعظم من القضاة بالذهاب إلى انتخاب مجلس القضاء الأعلى له تداعيات سلبية على سلطة العدالة التي تحكم باسم الشعب اللبناني، ويشدد القاضي البارز على أن “إرساء هذه القاعدة سيترك آثاراً سلبية على القضاء، إذ لا يجوز أن يترشّح قضاة لمناصب رفيعة، ويقودون حملات انتخابية واستقطاب الأصوات، وإغداق الوعود على هذا الناخب أو ذاك”. ويرى أن “القاضي الأكثر شعبية قد يفوز بمنصب رفيع بدون الالتفات إلى ملفه وكفاءته ونزاهته، ما يعني أن القضاء فقد وقاره وهيبته”. فهل النماذج الأخيرة في التجربة القضائية جعلت من مشروع استقلالية القضاء حلماً بعيد المنال؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
سجناء أنصفتهم الحرب! | توقيف “عميل” زوّد “الموساد” بمعلومات عن “الحزب” | وكلاء سلامة مرتاحون لمسار التحقيق.. رُبّ ضارّة نافعة |