“في محيط العنبر رقم 12″.. شاهد حيّ يروي لـ”هنا لبنان” اللحظات الأخيرة قبل التفجير وعسكري يبكي بغصّة رفاق الدرب!
هذا الرجل الأربعيني الذي قضى سنوات عدّة في المرفأ، يرفض المغادرة، “خسرت أعز الناس هون”، يقولها بحسرة هو الذي خدم لسنوات في سلك المخابرات، ليشير لنا إلى كلب عجوز يجول في الأفق، معلّقاً: “هو أيضاً نجا من الانفجار”!
كتبت نسرين مرعب لـ”هنا لبنان”:
ليس سهلاً أن تلتقط الصور والفيديوهات في مرفأ بيروت، فمحيط الإهراءات بوابة موت تعيد إلى ذاكرتنا مشاهد التفجير، فيمتزج هناك الأمل بالخيبة!
عند بوابة المرفأ، أجهزة أمنية عدّة، جمارك، مخابرات جيش وأمن عام. تنظر لا إرادياً إلى تلك الوجوه، وتسأل، أين كانوا يوم التفجير؟ هل هم ناجون، أم نقلوا حديثاً إلى هذا المكان..
أسئلة، أبت إلّا أن تخرج، وما بين دردشة وأخرى، قررت أن أعود إلى ذلك اليوم، إلى 4 آب 2022.
البداية كانت من عنصر الأمن العام، الذي كان يسهّل لنا المرور، وما بين سيجارة قدّمها لنا وأحاديث جانبية دارت على هامش الانتظار، سألته، إن وفد إلى هنا بعد التفجير.
العنصر الذي كان يخبرنا عن راتبه الذي لا يتخطّى الـ60$، غرق بلحظة صمت، ثم أجاب: “أنا هون من 6 سنين، بس يوم التفجير ما كنت خدمة نفدت”.
لا ينكر العنصر صورة الموت التي يراها يومياً في هذا المكان، هو قد طلب نقله مراراً ولكن دون جدوى.
أسئلة كثيرة يطرحها العنصر، بداية من التوقيت، فعند الساعة السادسة لا يبقى إلّا عدد قليل من الموظفين في المرفأ – وفق ما يقول – مضيفاً: “لو حصل الانفجار في وقت مبكر لكانت الكارثة أضعاف الأضعاف”.
كذلك يسأل عن شاحنة المفرقعات التي مكثت أكثر من 7 أشهر بالقرب من العنبر رقم 12، وهذا لا يحصل عادة، إذ لا يسمح بتوقف أي آلية أكثر من أيام معدودة!
وصولاً إلى الصوت الذي سمع بقوّة في الأرجاء، وإلى الصاعق الذي يفجّر هذه الكمية من نيترات الأمونيوم!
يلمّح العنصر إلى أنّ ما حصل كان متعمداً، لا قضاءً ولا قدراً، ولكنه لا يستطيع قولها صراحة…
عبء المكان أصبح كبيراً أليس كذلك؟ نسأل، بعدما وصلت مشاعر الغصّة والألم التي خنقت بحّة صوته إلينا..
يصمت العنصر مجدداً، ليعود ويخبرنا عن رفاق خسرهم هنا يوم التفجير، رفاق جمعته بهم السنوات، وها هو اليوم يراهم بين ردم الإهراءات وفي حفرة عمقها 40 متراً تركها العنبر رقم 12، كي تكون شاهدة على الجريمة.
في زاوية أخرى، يقودنا عنصر آخر، من جهاز مخابرات الجيش، إلى مكان التصوير، الشاب الثلاثيني، الذي دخل إلى هذا المكان في العام 2015، يتذكر لحظات الانفجار بالتفصيل، المفرقعات، صوت ضرب قوي، ومن ثمّ التفجير.
لا يستبعد العنصر الذي كتب له القدر عمراً جديداً في ذلك اليوم، أن يكون المرفأ قد استهدف، جوّاً أو بحراً، فكمية النيترات وفق كلامه لن يفجّرها “تلحيم”، بل تحتاج لصاعق صاروخي.
أين كنت وقت التفجير؟
“كنت هون”، يقولها بابتسامة صفراء، ابتسامة من انتصر على موت أردى مدينة.
عند بوابة المرفأ كان العسكري في ذلك اليوم المشؤوم، وهناك دقّت ساعة الموت ولكن ساعته هو لم يأتِ ميعادها فنجا من التفجير بفضل شجرة، كما نجا رفيق له بعدما رمته قوّة الضغط في البحر.
” أصبت بجروح فقط”، يقول العسكري، مضيفاً: “للحظة، كل شيء توقف، لم يعد شيء هنا مثلما كان، الدنيا انقلبت فجأة”.
جهاز مخابرات الجيش خسر في التفجير 3 شهداء، يخبرنا العنصر، الذي يتحدث عن ثقل المكان ومرارته.
هل فكرت في مغادرة المكان؟! سؤال مشروع لم يكن هناك فرار من طرحه، ليبتسم العنصر فيجيب ببساطة “بدا واسطة”!
الرغبة بالرحيل، لا تسيطر على الكل، فهذا الرجل الأربعيني الذي قضى سنوات عدّة في المرفأ، يرفض المغادرة، “خسرت أعز الناس هون”، يقولها بحسرة هو الذي خدم لسنوات في سلك المخابرات، ليشير لنا إلى كلب عجوز يجول في الأفق، معلّقاً: “هو أيضاً نجا من الانفجار”!
مواضيع مماثلة للكاتب:
ونحن أيضاً أشلاء.. | أين لبنان؟.. يا فيروز! | سليم عياش.. “القاتل يُقتل ولو بعد حين”! |