وطن على حدود النار والقدر
رغم وجود سوريا على حدود إسرائيل أيضاً، بقي لبنان الدولة الحدودية الوحيدة التي تصارع نيابة عن العرب جميعهم، وهذا ما استفاد منه السوريون مستخدمين الأرض اللبنانية في مواجهة النيران الإسرائيلية لإبقاء جبهة الجولان ورقة تفاوض شبه أبدية
كتب جان نخّول لـ “هنا لبنان”:
بما يشبه اللعنة الأبدية، يدفع لبنان باستمرار أثمان الوجود على خط النار وفالق التصدعات التاريخية والجغرافية في المنطقة.
لو كان خطاطو المنطقة في مؤتمر الصلح عام ١٩١٩ يعلمون كيف ستتحول المنطقة على مر السنوات، لكانوا رسموا حدوداً أخرى للبنان، أو سعوا لتحييده ولو أن ذلك لم ولن يكون ممكناً.
فالتنوع الثقافي وأبعاد الانتماءات اللبنانية التي جعلت من كل جماعة تبحث عن حماية خارجية لوجودها وكيانها في الداخل اللبناني، ربطت لبنان حكماً بالكثير من الصراعات كان أولها موجة الانقلابات في المنطقة العربية التي تزامنت مع الاستقلال، فبدلت طقم الحكم في لبنان وأزاحت بشارة الخوري عن الحكم في ثورة بيضاء، أتت رياحها مع التبدلات الحاصلة في سوريا. وكانت أولى بشائر التصدعات التي تلهب لبنان من الخارج إعلان دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ ووقوف لبنان في الواجهة كونه على الحدود الشمالية للدولة الناشئة.
ومع رياح الثورة العربية المعارضة والداعية إلى الوحدة، ووصول الضباط الأحرار إلى مصاف الأبطال الإغريق في حكم مصر، رسم جمال عبد الناصر هالة أخرى تطغى على الطيف اللبناني، فكان بدعوته إلى الوحدة العربية وإلى مواصلة المقاومة ضد إسرائيل يطرق الأبواب اللبنانية، التي تعرقل مساحته الجغرافية في الجمهورية العربية، التي أوصلته إلى سوريا.
وفي حين لم يتمكن كميل شمعون من رأب الصدع في الداخل اللبناني، بعدما ألهب عبد الناصر مشاعر المسلمين، واستفزهم شمعون في المقابل بانخراطه في حلف بغداد ومناشدته مساعدة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور تفادياً للتهديد السوفياتي للبنان، عرف فؤاد شهاب كيف يحقق الحياد اللبناني الوحيد في تاريخ الجمهورية الحديثة، راسماً على الحدود اللبنانية السورية اتفاقاً مع عبد الناصر على عدم الانجرار وراء المحاور في الخارج، مقابل الإبقاء على الاستقرار في الداخل.
ولكن خلف فؤاد شهاب واستمرارية نهجه شارل حلو لم يستطع تحقيق الأمر نفسه، فاعترضته رياح الانكسارات العربية، وحوّلته نكسة ١٩٦٧ من رئيس جمهورية إلى عامل إطفاء تأتيه الحرائق في كل مكان، حتى أصبح اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩ هو الخيار الوحيد المتاح أمام اللبنانيين لتجنب الحرب الآتية لا محالة.
سبق ذلك دفع لبنان الثمن في عمليات إسرائيلية لم تكن أقلها عملية ١٩٦٨ في مطار بيروت. لقد أقحم لبنان رسمياً في الصراع الفدائي الذي استبدل هيبة عبد الناصر بكوفية أبو عمار.
واستعادة بعض من الكرامة العربية عام ١٩٧٣ أغرق لبنان أكثر تحت السطوة الفدائية، فلم يعد بالإمكان التصدي للتوسع التحريري القائم على أرض لبنان.
ومع وصول الأسد الأب إلى الحكم في سوريا، واندلاع الحرب اللبنانية، لعب حافظ الأسد دور الأب الصالح، انطلاقا من قناعته أن لبنان محافظة سورية، ودخل لبنان حماية للأقليات المسيحية، هو الأقلوي الآخر الذي يدرك حجم القلق الوجودي.
لكنه رأى في كامب ديفيد عام ١٩٧٨ فرصة للعب دور شبيه بعبد الناصر، بعدما انكفأت مصر في صراعها مع إسرائيل، وانقلب على الجبهة اللبنانية، دفع لبنان الثمن مرة جديدة.
باتت لائحة الصراعات التي دفعها لبنان طويلة، واعتقد بشير الجميل أنه سيتمكن من توقيع المعركة الأخيرة بطرد منظمة التحرير من لبنان، ولكنه لم يصل إلى الحكم لإعادة بناء ما تصدع.
ومع رياح الجمهورية الإسلامية التي استبدلت حكم الشاه في إيران تحت عباءة المرشد الأعلى، تحوّل الشيعة في لبنان إلى جزء من مشروع أكبر، ما عدا من حاول التصدي لهم من بينهم، ولم يكتب له النجاح.
بعد الحرب، اعتقد رفيق الحريري كما كل العرب أن السلام آت في المنطقة وأن الإعمار والاستقرار سيستفيدان من هذه الرياح، قبل أن يهدم اغتيال إسحق رابين السلام عن بكرة أبيه.
كانت الترجمة في لبنان عناقيد الغضب، تحت الاحتلال الإسرائيلي المستمر، وصولاً إلى التحرير عام ٢٠٠٠ بعد سنوات طويلة من القرار ٤٢٥.
ولكن التحرير لم يكن كافياً لإنهاء الصراعات، فبقي مشروع حزب الله تحت شماعة مزارع شبعا، وبقي مشروع الشرق الأوسط والسلام الشامل يمر من القمم العربية في بيروت، بستار تقدمي وبراق، وبتكريس لوضعية لبنان التي تضعه في الواجهة.
ولكن الفرق بين لبنان وسواه على مر السنوات أنه بقي الدولة الحدودية الوحيدة – نعم الوحيدة رغم وجود سوريا على حدود إسرائيل أيضا – التي تصارع نيابة عن العرب جميعهم، وهذا ما استفاد منه السوريون مستخدمين الأرض اللبنانية في مواجهة النيران الإسرائيلية لإبقاء جبهة الجولان ورقة تفاوض شبه أبدية.
قد يكون لبنان استفاد من بعض الأزمات العربية، مثل اجتياح العراق وتهريب الرساميل إلى لبنان، ولكن دفع في المقابل ثمن الضغط على البعث العربي، وانسحاب الجيش السوري لاستبداله بوجود حزب الله في قلب الحكومات وتركيبة الدولة. الطبيعة تكره الفراغ، وهكذا هي حال الدساتير أيضاً.
اليوم، بات وجود حزب الله في الحكومات يشرع تدخله في سوريا والكويت والبحرين، على قاعدة مكره أخاك لا بطل. وإعلان بعبدا لم يبق منه سوى صورة معلقة على جدران قصر بعبدا لعدم قابلية الاتفاق على العيش وسط الصراعات في المنطقة.
هي حال لبنان في كل المراحل والأزمات. الأهم أن ما يحصل في غزة اليوم قد يكبر انطلاقاً من المد العربي باتجاه التطبيع. سيدفع لبنان ثمن التطبيع إن حصل، وعدم التطبيع إن حصل أيضاً. ولكن الهاجس الأكبر سيبقى دائماً الحرب الكبرى. يوم سيحين وقت الاستغناء عن حزب الله في الأدوار الإقليمية. انطلاقاً من عدم تقبل الفراغ، ما البديل عندها؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
رئيس لبنان ينتظر عند معبر رفح | بين اغتيالات الرأي… وما يعقبها من ثورات | نجاح سلام وأمين معلوف… والثقافة المفقودة |