بين اغتيالات الرأي… وما يعقبها من ثورات

إن كان لكلّ عملية اغتيال بحق الصحافيين من دور في قلب الأمور في المسار السياسي العام، فإن اغتيال عصام عبدالله سيطوي صفحة المظلومية الإسرائيلية، وسيطلق مرحلة جديدة تظهر أنّ التباكي منذ المحرقة وحتى اليوم لم يعد يبرر كمّ الجرائم المرتكبة بحق الشعوب العربية

كتب جان نخّول لـ “هنا لبنان”:

من السهل في أزمنة الحروب والخضات الكبرى الاستخفاف بأي عامل أو مفصل في التاريخ، مقارنة مع الخضات الكبرى التي تبدل في الخرائط وتغير في موازين القوى في منطقة مثل الشرق الأوسط.
وإن كان ما يحصل منذ ٧ تشرين الأول في غزة هو نذير مرحلة جديدة مختلفة كلياً عما سبقها، فإنّ الاعتداء الذي حصل على الصحافيين في الجنوب وأدى إلى اغتيال الزميل عصام عبدالله وجرح زملاء آخرين ما هو إلا تأكيد على ضخامة المرحلة من الناحية السياسية.
مع استعادة أهم أحداث لبنان، نجد أن الصحافة اللبنانية لعبت دوراً في تفعيل التغيير، أو في دفع الأحرار إلى الاستفاقة من سباتهم وتخطي الظلم. ليس بالضرورة أن يكون دور الصحافي محورياً في قلب الأحداث، لكن الاعتداء على الصحافيين لم يكن يوماً إلا باباً لقلب المعادلة.
بمجرد العودة بالزمن إلى ما قبل تشكيل دولة لبنان الكبير، لا يسعنا إلا تذكر السادس من أيار عام ١٩١٦ عندما أعدمت السلطنة العثمانية الصحافيين في ساحة البرج التي باتت على اسمهم، في عهد جمال باشا السفاح. هل كان ما حصل بمثابة كسر للحرية؟ طبعاً. ولكن ألم يكن ما حصل الشعرة التي قسمت ظهر البعير، وأحرقت آخر أوراق السلطنة العثمانية؟ طبعاً.
لا شك أنّ لبيروت فضلاً كبيراً على الصحافة العربية بشكل عام، بحيث أنّ العديد من الصحف والمنشورات العربية خرجت من هذه العاصمة، أو أنّ المسؤولين عنها انطلقوا من قلب لبنان. هاتوا قائمة رؤساء تحرير أهم المطبوعات العربية لمقارنتها، وستجدون الدور اللبناني فيها.
ولكن تشكيل الدولة وإعلان الاستقلال لم يشكّلا محطات كافية لصون حرية الرأي والتعبير والصحافة، والدليل استمرار التضييق على الإعلام والإعلاميين. ولكن مرة جديدة، لا يمكن أن يمرّ الاعتداء على الجسم الصحافي من دون ردٍّ صارخ، ومن دون إعادة اعتبار للوجهة السياسية في البلاد.
اغتيال نسيب المتني في السابع من أيار ١٩٥٨ لم يكن بعيداً عن هذا الأمر. فالصحافي المعارض للرئيس كميل شمعون فجّر الثورة التي لم تمكن أحد أقوى عهود لبنان من الاستمرار. الحال نفسها مع الصحافي كامل مروة الذي أدى مقتله عام ١٩٦٦ إلى طيّ صفحة سياسية كانت بمثابة هدنة إلى حدٍّ ما، قبل إطلاق مرحلة جديدة بعد أشهر انطلاقاً من نكسة عام ١٩٦٧.
هكذا هي الحال مع اغتيال الصحافيين. مراحل تطوى، ومراحل تنطلق، والاغتيالات في فترة الحرب لم تكن أقلّ تأثيراً ولو أنّها باتت جزءاً من كل.
أما مرحلة ما بعد الحرب، فهي أيضاً شهدت عمليات اغتيال الصحافيين التي أطلقت المراحل المختلفة والثورات المتعددة. أبرز الاغتيالات هي تلك التي أعقبت مرحلة ٢٠٠٥. جبران تويني وما يرمز إليه نيابياً في بيروت، وصحافياً في النهار، وتغييرياً في الساحات.
مي شدياق وما ترمز إليه من قضية في شاشة تمثل أيضاً قضية في ذلك الوقت. هي محطات طوت مرحلة الخوف من السوري، إلى مرحلة الخوف على الوطن من انتقام النظام المنسحب.
أما اغتيال سمير قصير، المبشر بربيع بيروت، والهائم في حب الحرية والعدالة، فلا بدّ من أن نتذكره وحده في سياق رحيل الزميلة جيزيل خوري في الساعات الماضية.
سمير قصير باغتياله شكّل انطلاقة شرارة التحرر العربي العابر. اليوم، يشكل اغتيال عصام عبدالله في الجنوب شرارة أخرى. هي شرارة كسر الهيمنة الإسرائيلية في الإعلام العالمي، بتصوير كل ما يجري على أنه اعتداء على دولة بريئة من قبل جماعات إرهابية. ليست الحال هكذا، وهذا ما يفترض أن يدركه العالم بعد هذا الاغتيال. إن كان لكلّ عملية اغتيال بحق الصحافيين من دور في قلب الأمور في المسار السياسي العام، فإن اغتيال عصام عبدالله سيطوي صفحة المظلومية الإسرائيلية، وسيطلق مرحلة جديدة تظهر أنّ التباكي منذ المحرقة وحتى اليوم لم يعد يبرر كمّ الجرائم المرتكبة بحق الشعوب العربية.

مواضيع مماثلة للكاتب:

رئيس لبنان ينتظر عند معبر رفح

وطن على حدود النار والقدر

نجاح سلام وأمين معلوف… والثقافة المفقودة